يرفض ميشال الشعار ترك حرفته بصناعة سكك الحراثة المشهورة باسم السكة العربية. والشعار لا يزال ينفخ في كوره التقليدي رغم ندمه على احتراف هذه «الصنعة» التي أكلت عمره وهو يطرق حديد السكة فوق سندان يخاف أن يموت عليه، مترحماً على زمن الفلاحين وتقديرهم لتعبه في «صنعة قهارة»
عفيف دياب
«المالك صنعة.. مالك قلعة». يقول المعلم ميشال الشعار، الحداد الوحيد الباقي من «شلة» صناعة السكة العربية للحراثة والفلاحة في لبنان اليوم. فالمعلم ميشال الذي بلغ من العمر 77 عاماً، أمضى منها 65 عاماً في خدمة الفلاحين والمزارعين، يحافظ على محله الصغير في حي حوش الزراعنة في مدينة زحلة. والمحل، الذي فيه ما في محال الحدادين التقليدية من مطرقة وسندان و«كور» لصناعة «سكة الفلاحة» بطرق شبه بدائية أو قديمة العهد، ورثه المعلم ميشال عن والده. هذا الرجل السبعيني الذي لم يتعب بعد من «رفع» مطرقته عالياً ولا من تذويب الحديد في الكور الناري، يتحسر على أيام غابرة كان فيها لسكة الحراثة عز ومجد قبل أن تدخل عمليات التصنيع في المعامل الكبرى على الخط و«غش الفلاحين بسكك حديدية تذوب بسرعة تحت التراب». ويقول المعلم ميشال الذي يتلقى بين الحين والآخر مساعدة من نجله جورج الذي امتهن بدوره حرفة صناعة «سكة الفلاحة» وبعض معدّات الفلاحين الأخرى، إن عشقه لحرفته الشاقة والمتعبة: «لم يعد كما كان في الماضي. ولو عدت بالعمر الى الوراء لما اخترت هذه الصنعة التي تبقى تشتغل بها حتى تموت فوق السندان، وفي النهاية يذهب تعبك للتجار». ويتابع «اليوم أسعار السكك بيسوى «صرماية أجلّك»، وما عاد حدا يقدّر شغلنا وتعبنا. السكة مش عم تجيب حق تعبها إذا بعتها أصلاً»!
كنا نجيب الفحم الروسي وكان مرسوم على الاكياس منجل وشاكوش
لم يكن المعلم ميشال الشعار في وارد أن يصبح «معلماً» في حرفته هذه. «الصنعة لم تكن تستهويني بالأساس. بس العمر هيك بدو، والدي نزّلني الى المحل وأنا في عمر 11 عاماً كي أساعده في عملية النفخ بالكور ليبقى الجمر مشتعلاً، كنت ولداً، وكانت الورطة الكبيرة، ولم أزل متورطاً حتى اليوم ولا أعرف أن اعمل شيئاً آخر». ويتابع وهو يمسح عرقه من شدة حرارة الفرن «لقد أحببت هذه الصنعة بعدما تعلمتها جيداً، وأصبحت محترفاً في صناعة السكك والمناجل والفؤوس والمجارف والمعاول وبعض السكاكين والسيوف الصغيرة وغيرها من معدّات الفلاحين والمزارعين أيام عز الشغل والطلب على السكة العربية، لكن اليوم اقتصر عملي على صناعة سكك الحراثة للجرارات الزراعية». ويضيف «أيام زمان كان للفلاح في السهل قيمة، وكان الفلاحون يعرفون الزراعة جيداً ويحبّونها، ويقدّرون شغلنا وصنعتنا ويعطوننا تعبنا، فيوم كان سعر السكة 3 ليرات كنا نعيش بنعيم ونبيع يومياً أكثر من 30 أو 40 سكة، بينما اليوم تجار الحديد والفحم الحجري يأخذون كل تعبنا. لا نبيع اليوم أكثر من 3 سكك يراوح سعرها بين 40 ألف ليرة و150 ألف ليرة حسب نوعها وحجمها».
لا يزال المعلم ميشال يحافظ على السندان و«المهدّة» والمطارق والملاقط التي تعود الى مطلع خمسينات القرن الماضي في «مصنعه» الصغير الذي يقصده الفلاحون والمزارعون من مختلف المناطق اللبنانية و«ما عاد في غيري بلبنان، يمكن في واحد صوب بعلبك، بس ما بعرف اذا بعدو. بيجوا من عكار والجنوب حتى ياخذوا السكك من عندي. بس بدك حدا يقدّر هالشغل. هون بدك تبقى تشتغل حتى تموت. صار عمري 77 سنة وما شفت يوم راحة.. حياتك يا ابني مش إلك. حياتك للتجار الكبار. بس بعدني صامد. رزق الله على ايام زمان المناجل والفلاح اللي بيقدر شغلك. كان في زحلة 8 معامل صغار للسكة العربية، راحوا كلن. بعدني أنا وحدي. شغل المعامل الكبيرة اليوم ما إلو قيمة. كلو غش بغش، وألله يساعد الفلاحين والمزارعين. السكة اليوم ليست بقيمة تعبها، ولا تقدر أن ترفع السعر على الفلاح والمزارع الصغير. أنا اليوم نادم على هذه المصلحة، لكن أحبها كثيراً. لقد وصلنا الى وقت لا أحد يقدّر فيه عملنا ولا فننا في صناعة السكة العربية. لقد تزوجت وعمّرت منزلاً من هذه المهنة، وربيت اولادي الخمسة من تعبي وعرق جبيني، ومن صناعتي للسكة تعلموا أفضل تعليم في المدارس». يتابع وهو يرفع مطرقته عالياً قبل أن تهبط بقوة على السكة الملتهبة فوق السندان «صنعة السكة العربية الى زوال. لا أحد يسأل عن هذه الحرفة الأصيلة. البعض يأتي لمشاهدة عملنا فقط، وكأننا صرنا لمجرد الفرجة. صرت متل السكة تحت المطرقة وفوق السندان، وتكفي الوقفة أمام الكور الناري اكثر من 60 سنة. لقد تعبت كثيراً، ويحكون عن التقاعد. شغلتنا ما فيها تقاعد».
البعض يأتي لمشاهدة عملنا فقط وكأننا صرنا لمجرد الفرجة
يحمل المعلم ميشال ألواح الحديد الثقيلة بمساعدة ابنه جورج. «يهندس» السكة قبل أن يقصّ الحديد بالنار. يقف أمام الكور أو الفرن و«يلف» السكة بعد أن تفعل نيران «الفحم الحجري» فعلها بالحديد الصلب والسميك الذي يصبح مثل العجين فوق السندان وتحت ضربات المطرقة و«السكة بعده شغل شي ساعتين. النار عم تاكلني أكل. بيني وبينها رفقة عمر، بنزل على الشغل قبل طلوع الضو، والساعة تسعة بكون شلت بين 4 أو 5 سكك. بس بهالايام الفحم الحجري مغشوش ومش عم يساعدني على الشغل. رزق الله على ايام فحم التاج أو الشاكوشين. كنا نجيب الفحم الروسي ومرسوم على الأكياس منجل وشاكوش. راحت أيام الفحم الروسي اللي كان يلبينا بالشغل منيح، اليوم لا أعرف من شو عم يعملوا الفحم الحجري. ناره غريبه وشكله عجيب».
يصمم المعلم ميشال الشعار اليوم مختلف أنواع سكك الفلاحة والحراثة للجرارات الزراعية فقط، بعدما اندثرت «ايام الفلاحة على الأبقار والحمير» و«اليوم لا أصنع سوى سكك قلع البطاطا، وسكك الفلاحة العادية «العيارة»، إضافة الى بعض المعاول والمجارف في أوقات الفراغ، وأحياناً ألبّي طلبات زبائن يريدون مناجل من مختلف القياسات والأحجام، أو «زابورة» للبقدونس من أجل تزيين منازلهم بها كتراث قديم يفتخرون به ولا يقدرون صناعته وتعبه، وكنت أصنع سابقاً الكشافات والطبر (نوع من السكاكين) وبعض الأنواع من الفؤوس القديمة، لكن الآن لم أعد أقدر إلا على صناعة السكة العربية بمساعدة ابني في أوقات فراغه، واذا أراد أن يكمل بهذه المصلحة فهو حر. بس أنصحه بألّا يتورط حتى لا يتعب مثلي ويبقى أسيراً لهذه الصنعة التي لا تعطيه قلعة اليوم».


في خدمة الفلاحين

يمضي المعلم ميشال الشعار أكثر من ساعتين لصناعة سكة حراثة واحدة و«إذا كنت مرتاح احتاج الى ساعة لأصنع سكة واحدة، لكن العمر إلو حق عليي. لم أعد استطيع العمل كما في السابق وأيام الشباب». فالرجل الذي يحنّ الى التقاعد ينتقد كل الذين كانوا يحسدونه في السابق على «الشغل الحر» و«الله يلعن الحرية». أين هي؟ لم أعش يوماً حرّاً. لكنني سأبقى في خدمة الفلاحين والمزارعين».