تتوالى حفريات الإنقاذ في مدينة صور. هكذا، بدأ أخيراً إنقاذ مقابر رومانية وأخرى بيزنطية أو هلنستية. بعض هذه المقابر محفور في الأرض، والبعض الآخر مبني فوقها، لكن المؤكد أنها مقابر تدل على تاريخ سكان المدينة
جوان فرشخ بجالي
«صور مدينة تاريخية، وفي أسفل كل بيت من بيوتها موقع أثري». مقولة يرددها أهالي صور على مسمع كل من يسأل عن تاريخ مدينتهم. تؤكد حفريات الإنقاذ التي تجريها المديرية العامة للآثار هذه المقولة. فتماماً كما هي الحال في بيروت، وباقي المدن ذات الطابع الأثري، ما إن يحصل صاحب العقار على رخصة البناء، تحال الأخيرة على المديرية العامة. تجري المديرية اسباراً في العقار، وفي حال تبيان وجود آثار دفينة، يمول صاحب المشروع حفريات الإنقاذ التي تشرف عليها المديرية، وبناءً على ما يكتشف يُتفاوَض على إدراج الآثار في البناء الجديد، أو رفعها، أو شراء العقار، إذا كانت الآثار فريدة من نوعها.
وفي صور، تجري في هذه الفترة ثلاث حفريات إنقاذ، اثنتان منها في حي الرمل والثالثة على مدخل المدينة. وبالفعل، اكتُشفت مقبرة واسعة استعملت في كل من الفترتين الرومانية والبيزنطية «في العقار الذي ستُشاد عليه حسينية ومركز خدمات لجمعية الباقيات الصالحات»، كما يشير علي بدوي، مسؤول المواقع الأثرية في جنوب لبنان. واللافت، أن بعض تلك المقابر كانت مبنية من الحجر بناءً شبه دائري على الأطراف، كذلك فإن سقف إحداها كان مغطىً بقطع من الفسيفساء. كأن تلك المقابر كانت مقسمة إلى مجمعات عائلية, ويرجح أن النواويس كانت موضوعة على سقوف المقابر، تماماً كما هي الحال في موقع البص (صور). لكن ربما كانت قد سرقت في مراحل لاحقة. هذه الحفرية، وفقاً للمختصين، «تبدو امتداداً مؤكداً للموقع الروماني الكبير المعروف بموقع البص». أما عن سبب توقف استعمال الموقع بعد الفترة البيزنطية، فيرى بدوي أن سلسلة الزلازل التي ضربت صور وجوارها في القرن السادس الميلادي دمرت المدينة، ما أدى إلى انهيار تام للنظام الاجتماعي والاقتصادي. آنذاك، هجر المدينة أهلها وانتهى عصرها الذهبي.
إلى ذلك، أبرزت الحفريات الأثرية مقابر بسيطة جداً. مجرد حفر في الأرض وضعت الجثامين داخلها. جرتان دفن الأطفال في داخلهما. ويجري الآن رفع هذه الهياكل العظمية، وإخلاء الموقع من الآثار، فمجمل مالكي العقارات يرفضون إدخال المقابر ضمن مبانيهم الحديثة، نظراً للاعتقاد السائد بأن «الأموات والأحياء لا يجب أن يختلطا في أرضٍ واحدة». أما الحفرية الثانية، فتجري على مدخل مدينة صور. هناك، عُثر على مقابر هلنستية محفورة في هضاب الرمال البحرية. يذكر الأمر بجيش الإسكندر المقدوني الذي إجتاح مدن الساحل اللبناني، وكما هو معروف دمرت مدينة صور البحرية التي كانت مشيّدة على جزيرة ووصلتها باليابسة بعدما ردمت بحرها. لكن، نادرة هي المواقع والمعالم الأثرية التي تعود إلى هذه الفترة. لذا، تأخذ الحفريات في مدخل صور حيزاً مهماً جداً، إذ عثر العلماء على مقابر هلنستية محفورة في الرمل. ويبرر بدوي ذلك بأن «العقار ضخم جداً ويمتد على مساحة 100 ألف متر مربع اشترته عائلة الساحلي بهدف بناء مجمع تجاري وبنايات سكنية وتوابعها في هذه المنطقة». والمعروف أن المنطقة تتكون من تلال من رمل البحر، لكن القيام بأسبار على الموقع أظهر أن بعض هذه التلال تحوي مدافن تعود للفترة الهلنستية، تقوم اليوم فرق من علماء الآثار بحفرها، وخصوصاً بعدما عُثر على ما يزيد على 30 هيكلاً عظمياً، بعضها يعود لأطفال. وتبرز الحفريات أن عملية الدفن المتبعة تقوم على وضع الجثمان مع بعض الأغراض التابعة له في الرمال.
وبعيداً عن الآثار البشرية، تُبرز القطع الفخارية المكتشفة العلاقة القوية التي عرفتها المنطقة مع المدن اليونانية. فهناك قطع طليت باللون الأسود في محاولة «لتقليد» شكل الفخار الأغريقي من أثينا، وهناك قطع مستوردة من اليونان. وهذا ما يبرز العلاقة التجارية بين صور والمدن اليونانية، ويوضح من جهة ثانية انتشار الثقافة والفن الأغريقي لدرجة تعرضه للتقليد من المدن الأخرى. ويرجّح بدوي أن هذه التلال الرملية كانت «مقابر المدينة منذ الفترة الفينيقية، وأنّ من الممكن أن يكون قد شيد على أعلى نقطة في هذا التل معبد صغير استعمل في الفترة الهلنستية، وخاصة بين القرن الثالث والثاني قبل الميلاد». لكن لم تبدأ التنقيبات بعد، للتأكد من جدية هذه النظرية. يشير المسؤول إلى أن المشروع الجديد الذي سيقام في هذا العقار يلحظ في داخله حديقة، متوقعاً أن يقبل أصحاب الأرض بأن تكون تلك الحديقة مركزاً أثرياً. لكن تلك المفاوضات والمناقشات لن تبدأ إلا مع انتهاء الورشة الأساسية للحفريات.
وتشرف المديرية العامة للآثار على سير العمل في حفريات الإنقاذ في صور، كذلك تُنجَز كل التنقيبات بحسب دفتر الشروط المعمول به. لكن الفرق التي تنجز العمل هي فرق لبنانية مؤلفة من طلاب كليات الآثار في الجامعة اللبنانية، والمسؤول عن الحفريات في الموقع حاصل على شهادة جامعية في هذا الإطار، وله خبرة في التنقيبات حصل عليها من المشاركة في البعثات الأثرية الأجنبية العاملة في لبنان. وبهذا، يكون لهذا الفريق خبرة في طرق التنقيب العلمية. لكن يبقى أن يكملوا اختصاصاتهم وأبحاثهم العلمية لكي لا يكونوا فقط مجرد مختصين في التنقيب، بل في فهم الماضي أيضاً.