ضحى شمسلم أكن أصدّق ما تسمعه أذناي وتراه عيناي. ولأنني لم أكن أصدق، فإنني وقفت ببيجامتي وسط صالوني، أمام التلفزيون، وأنا أسمع نفسي أردد بصوت عال كأنما لأصدق أنني مستيقظة: لأ. مش معقول، مش معقول. ولأنني كنت مذهولة، فإني حتى لم أعمد، على عادتي حين يلفت نظري ما يستحق التعليق، إلى تدوين ما كان الضيف يقوله للزميل بسام أبو زيد في برنامج «نهاركم سعيد» على قناة «ال بي سي». فبكل بساطة لم يكن مضمون ما كان النائب السابق انطوان أندراوس يقوله في البرنامج هو وحده الفضيحة، بقدر ما كانت اللهجة التي كان الرجلان «يتجاذبان» بها أطراف الحديث، وكأنه حديث عادي، على الأقل في ذهنهما، أما الخوف والرعب فأن يكون كذلك في ذهن جمهورهما، وهو على الأرجح ما يظنانه.
بكل بساطة، كان الرجل يعرب عن قلقه من «شراء الأراضي المتزايد بنحو لافت في المناطق المسيحية» معتبراً أنه «صحيح من حق اي لبناني أن يشتري في أي منطقة يريد»، لكن الأمر تزايد بطريقة توجب السؤال، برأيه. أما لماذا؟ فلأن، بكل بساطة، هذا الشراء المتنامي «يحدث، شئنا أو أبينا تغييراً في الديموغرافيا» (اقرأ الطائفية). وهذا أمر خطير بالطبع بالنسبة له. أي أنه يرى أن شراء المسلمين لأملاك في المناطق التي فرزتها الحرب وما قبلها، مسيحية، المناطق المطلوب إعادة خلطها بألوان الوطن كلها، أمر مخيف لنائب رئيس... تيار المستقبل، بدلاً من أن يكون شيئاً جيداً يعزز الاندماج بين المواطنين الذين فرقتهم الحرب. وقال: «هلق فيني إفهم بالنهاية انو مواطن مسيحي يمكن يكون مضطر يبيع شقفة ارض لأنو محتاج مصاري»، لكن برأيه يجب أن يكون «هناك تصرف» للحوؤل دون هذه «الظاهرة». تتوقع أن يسأله الزميل، ولو من باب تدوير الزوايا التقليدي بالموضوع الطائفي، شيئاً من نوع ما قلناه سابقاً، لكن لا. يسأله ببساطة: «طيب المواطن ما حدا عم يوعّيه، شو بدو يعمل؟ شو لازم يصير؟»، أي أنه يسأله ما الذي يجب فعله للحؤول دون بيع مواطن لبناني مسيحي أرضه الى مواطن لبناني مسلم! فيقترح الرئيس السابق لصندوق المهجرين «إنشاء صندوق»، أما مهمته؟ فالبديهي أن يكون لأمر من اثنين: إما لمساعدة المسيحيين الفقراء لئلا يبيعوا ارضهم لغير المسيحيين، وإما لشراء اراضي هؤلاء للحؤول دون وصولها الى ايدي «الأغيار». أي بدلاً من أن يكون همّ السياسي المتحالف مع أحد اكبر الأحزاب المسلمة اللبنانية، والإعلامي، المعروف بمهنيته، والاثنان من صناع الرأي العام، كيفية محاربة الفرز الطائفي، وتشجيع الاندماج بين مختلف فئات المجتمع المشرذم بالمذهبية، في مرحلة يمسك الكل فيها بقلبه خوفاً من انتكاسة الحرب الأهلية، يخرج كلام كهذا، عن شاشة ناجحة، كنا نظن أنها تعرف أن لديها ما تخسره على الأقل في باب الجمهور. ما هذا؟ متى أصبحنا كذلك؟ متى قسمنا لبنان بين الطوائف؟ هل أصبحنا فيدرالية غير معلنة؟ منذ متى تخيم هذه العقلية في أوساط مسيحية؟ وهل هي فعلاً مسيطرة؟ من تمثل؟ هل صحيح أن اللبناني حين يريد أن يشتري بيتاً أو قطعة ارض يجب أن يصرح بطائفته لتسهيل معاملته؟ وما الذي تعنيه هذه الذهنية إن كانت موجودة بلغة الإنماء؟ بلغة البلديات؟ أصحيح إذاً، ذاك الكلام الذي يقوله بعض المسلمين في المناطق المختلطة طائفياً عن استنسابية «الدولة» في تمويل البلدات المسيحية، وحرمان المسلمة لتبدو متخلفة؟ هل هو كلام متعصبين؟ وإن خرج كلام كهذا على قناة المنار، فما الذي يحصل؟ لكن، ليس الكلام وحده ما أصابني بالذهول، بل تلك اللهجة التي قيل فيها هذا الكلام الخطير، كأنه من البديهيات، كأنه حق كان يجب المناداة به منذ زمن طويل ولكن لم يعد بالإمكان السكوت عنه. في القرى النائية عن العاصمة، وأنا ابنة إحدى تلك القرى المختلطة طائفياً، هناك أحاديث أخطر بكثير، لكنها لا تزال «تستحي» من «الآخر». ولو أن جوّاً من «التحدي» الطائفي بدأ يخيّم عليها. وقد يكون ما خرج الى العلن في هذه الحلقة من «نهاركم سعيد» مجرد راس جبل الجليد. لكننا إن حسبنا أن من العبث الاشارة ببنان الاتهام الى أمر كهذا، فإن جبل الجليد لن يتأخر بالظهور تحت أقدامنا مزلزلاً أرضاً بكاملها اسمها لبنان، وعندها لن يبقى مخبّر يسأل إن كانت هذه الارض للمسيحيين أم للمسلمين... ونهاركم سعيد.