المطوق لم يعبر سهل البقاع بعد. الصيادون يحيلون الأمر على ظاهرة تغيّر المناخ، وهي إحالة «علمية» رغم عدم صدورها عن الجهة المختصة. لكن من قال إن تغيّر المناخ يولّد الكوارث؟ ففي حال طيور المطوق تبدأ الكارثة في سماء لبنان لا في دفء طقس يخدع هذه الطيور ويؤخّر عبورها إلى.. ساحة المعركة حيث ينتظر الصيادون، المخالفون للقانون، فريستهم الممنوع صيدها
نقولا أبو رجيلي
لم يتوقع الصياد إيلي أن تذهب جهوده سدى، وهو الذي انهمك طيلة أيام الأسبوع الماضي بإعداد الأوراق المطلوبة للاستحصال على رخصة نقل سلاح صيد، إلا أن حيازته هذا المستند القانوني الذي يسمح له بتخطّي الحواجز العسكريّة المنتشرة على طول الطريق الممتدة من مدينته زحلة إلى منطقة بعلبك وصولاً إلى سهول مجدلون، إيعات، رأس بعلبك والقاع وغيرها، حيث ينشط عبور الصيادين المخالفين، لم تحقق ما كان قد خطط له مع رفاقه، لتمضية العطلة الأسبوعيّة في قنص طيور المطوق، ذلك أن تأخر موسم عبور الأخيرة فوق سماء البقاع هذا العام خذلهم وخيّب آمال الكثيرين من الصيادين، الذين حضروا مع ساعات الفجر الأولى صبيحة الأحد الماضي إلى أمكنة كانوا قد اعتادوا ارتيادها خلال هذه الفترة من كل سنة.
ومن المعلوم أن الصيد ممنوع رسمياً بقرار صادر عن مجلس الوزراء عام 1994، لكن القوى الأمنية المكلفة بتنفيذ هذا القرار «تتساهل» في تطبيقه، باستثناء الحواجز العسكرية التي تدقق في حيازة المواطنين أسلحة غير مرخصة وتحيلهم على القضاء العسكري.
ولقد تزامن قرار مجلس الوزراء منع الصيد مع انضمام لبنان إلى اتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي، التي ربطت حينها بين الاستفادة من أموال الجهات المانحة التي تسعى إلى تطبيقها، وقرار منع الصيد، لكنّ شكاوى الجوار الأوروبي من انتهاك لبنان لاتفاقية الطيور المهاجرة الأورو ـــــ آسيوية والأفريقية لم تتوقف، نتيجة تعرّض هذه الطيور لإبادة شبه جماعية أثناء عبورها الأراضي اللبنانية.
«ماشي الحال، عذابنا ما راح على الفاضي، نقرنا كم طير فرّي»، يعزّي الصياد عمر ( 55 عاماً) نفسه بهذه الجملة، محاولاً إخفاء استيائه من خلوّ حمّالة صيده من طيور المطوق، بعدما كان قد انطلق باكراً الأحد الفائت بسيارته، قاصداً سهل بلدة تربل (شرق زحلة)، حيث «ممرق الطيور» (تسميّة متفق عليها بين الصيادين)، وهو المكان الذي من المفترض أن تعج سماؤه بأسراب المطوق المهاجرة في مثل هذه الفترة من كل عام.
يلقّب الصيادون نوعاً من المطوق بـ«القديس» لصعوبة صيده
عمر الذي يعمل مقاولاً في البناء، ويطلق عليه أبناء بلدته صفة «مدمن الصيد»، نظراً إلى خبرته الطويلة في هذا المجال، رأى أن تأخر موسم المطوق هذا الخريف يعود في الدرجة الأولى إلى عوامل الطقس وتغيّرات المناخ، موضحاً أنه «على الرغم من هطول الأمطار أوائل هذا الشهر، فإن درجات الحرارة لا تزال مرتفعة بالمقارنة مع السنوات السابقة، وهذا ما أخّر هجرة هذه الطيور في هذه الفترة، من بلدان أوروبا وتركيا إلى مصر والدول المجاورة عبر الممرات الدافئة والمليئة بالغذاء».
تهاجر طيور المطوق إلى لبنان في الفترة التي يحصد فيها المزارعون حقول القمح والشعير ومختلف أنواع الحبوب. ويشبه المطوق في حجمه ولونه الذي يميل إلى الرمادي والبني عصفور الدوري، إلا أنه وديع في طيرانه إلى حدّ يمكّن الصيادين من اقتناصه بسهولة. وهناك نوع من المطوق يعرف بـ«القديس». إطلاق هذه التسميّه عليه جاءت بسبب حنكته وصعوبة صيده، لكونه ينطلق بسرعة حين يشعر بالخطر، مُصدراً أصواتاً عالية لتنبيه باقي أفراد سربه.
في أحد محال تصليح السيارات، اختلط حابل الحديث عن الصيد بنابل النقاش في التوترات السياسية وما يمكن أن تسبّبه الأخيرة من خضّات أمنيّة في مقبل الأيام. وكان لافتاً ما قاله علي، صاحب المحل: «اتركونا من هالتحليلات يا شباب وخلّينا بالصيد، أنا مستعد اشتري علبة خرطوش الصيد مهما ارتفع سعرها حتى لو وصل سعرها للمئة ألف ليرة، وما بدفع حق رصاصة رشاش ليرة واحدة». علي بعد أن طلب من الموجودين ترك السياسة لأهلها، لفت إلى أن رحلة صيده الأخيرة يوم الأحد الماضي لم تكنّ موفقة، وأن تأخّر هجرة طيور المطوق خلال هذه الفترة مردّه إلى الطقس المعتدل الذي لا يزال يسيطر على مناطق موطنه الأصلي. ورداً على سؤال يقول: «إن شاء الله، الأحد الجايي بيكون الوضع أفضل».
هذا ما يتمناه أيضاً يوسف الموظف في السلك العسكري. فالمعاون أول ينتظر بفارغ الصبر يوم عطلته، لقطع مسافات طويلة من بيروت إلى شمال البقاع، لإفراغ ما في حوزته من خرطوش على طرائد لم يذق طعمها يوماً، هذا ما أشار إليه زميله ميلاد، الذي أضاف أن كل ما يبتغيه رفيقه من وراء ذلك، هو إثقال حمالة الصيد بعشرات الطيور التي يصطادها، ويتباهى بإظهارها خارج زجاج سيارته أثناء عودته إلى منزله. هنا، يتدخل صياد آخر معلقاً: «مش بس هيك، بيصرعنا بمغامراته عن الصيد طيلة الأوقات».
تصبح مخالفة يوسف مزدوجة. فإضافة إلى كونه عسكرياً مكلفاً بإنفاذ القانون لا بمخالفته، فإن قانون الصيد البرّي الذي لم تصدر مراسيمه التطبيقية كاملة بعد، يحذر بنحو قاطع من إظهار الطرائد المصطادة وعرضها في الطرقات العامة أو خارج السيارة.
أما «أبو يوسف» (50 عاماً)، صاحب قطعة أرض في سهل رأس بعلبك، فالأمر عنده سيّان. الرجل المتقاعد لا يهتم إذا هاجر الطير أو بقي في موطنه، منتقداً معظم هواة الصيد الذين يجهلون القوانين التي تنظم أوقاته، ولافتاً إلى أن كل ما يبتغيه من النزول إلى بستانه هو الاعتناء بمختلف أنواع الأشجار التي زرعها بالقرب من مجرى النهر الذي يعبر أراضي بلدته.
وعن حركة الصيادين مع اقتراب موسم المطوق، يوضح، «حضر العشرات منهم هذا الأحد من بيروت، ورجعوا إيد من ورا وإيد من قدام، وكل ما استطاعوا صيده هو أعداد قليلة من طيور الصلانجيت والدوري المصري، حتى إن الزرازير تأخر عبورها هذه السنة».