افتتاح موسم المحاضرات في الجامعة الأميركية لهذه السنة كان من مدينة ماري الأثرية. فهذا الموقع السوري أعطى العلم والتاريخ معلومات تشرح كيف تبنى الدول وتمتد سلطاتها، ومثّل أولى المدن في العالم
جوان فرشخ بجالي
قبل 5000 سنة، قرر ملك بناء مدينة على ضفاف نهر الفرات، فكان هناك تخطيط هندسي واضح للمدينة وأسوارها وقناة جر مياهها... مدينة ضخمة شيّدت وسمّيت لاحقاً مدينة ماري. ماري التي تعرف اليوم بتل الحريري هي «أول مدينة معروفة في شمال بلاد ما بين النهرين، وهي ثالث مدينة معروفة عالمياً»، بهذه المقولة بدأ البروفسور جان كلود مارغورون حديثه عن موقع ماري، الذي أنهى الحفريات الأثرية فيه مدة خمس وأربعين سنة. مارغورون الذي افتتح موسم المحاضرات لهذه السنة في متحف الجامعة الأميركية تكلم أكثر من ساعة عن مدينة ماري، وشكلها الهندسي الذي يُبرز تطور الحياة وتغيرها داخل أسوار تلك المدينة. وصف هذا العالم دقيق لدرجة أنه قد يصعب تصديق بعض تلك المعلومات، تشكيك يردّ عليه مارغورون قائلاً: "ما أطلعكم عليه ليس نظريات ولا تخيلات أو ضرباً من الخيال. إنها معلومات علمية دقيقة أتت نتيجة الحفريات الأثرية والدراسات المطولة التي أنجزها الفريق في هذا الموقع».
ولو هطلت مياه الامطار بنسة 80 مل في اليوم تبقى الطرقات سالكة
«فمدينة ماري مبنية على مقربة من نهر الفرات، لا على ضفافه، مخافة من أن تجرفها المياه في أيام الشتاء التي تهطل بقوّة في المنطقة»، كما يقول مارغورون. «وبما أن المدينة لن تعيش من دون مياه الفرات، شق الأقدمون قناة جر يصل عمقها إلى عشرة أمتار تحوّل قسماً من مياه النهر إلى داخل المدينة، وهي مجهّزة للملاحة النهرية ورسوّ السفن».
ولحماية المدينة الدائرية الشكل، التي يصل قطرها إلى 19 كلم، شيد الأقدمون من حولها سوراً أولياً مبنياً من حجر ومغطى بالطين بشكل هضبة صغيرة. ثم، وعلى مسافة من السور الأوّلي شيدت أسوار المدينة التي ترتفع عالياً لتحميها من الغزاة والحروب. وداخل تلك الأسوار بنيت البيوت التي وصل عدد سكانها إلى نحو20.000 فرد، كما يرجح مارغورون. «ولأن موسم الأمطار في ماري قصير وعنيف، تبدّل الشكل الهندسي للمدينة. «فمدينة ماري ترتفع 16 متراً عن سطح السهل المحيط بها، وقد جرى ذلك بقرار سابق. فسكانها وضعوا الأتربة المتراكمة من حفر قناة الجر في المنطقة التي حددت للبناء بهدف رفع المدينة الدائرية. ثم، رفعوا وسطها أكثر من الدوائر ممّا يسمح للسيول بالانحدار بسرعة» كما يقول مارغورون. وليس لبيوت ماري أيّ قاعات داخلية مكشوفة لكي لا تمتلئ بالمياه التي كانت تسري من الأسقف الى الشوارع العامة. وكانت هذه الأخيرة تتبع تصميماً هندسياً خاصاً بها: إنها شوارع تمتص المياه. فأرضها مرصوصة بالأتربة لدرجة أن الأمطار ولو هطلت بمعدل 80 ملم في اليوم الواحد (أي ما يكفي لإغراق شوارع بيروت كلها) لا تعيق تحرك سكان ماري!
فهذه المدينة التي عاشت ما بين 2900 قبل الميلاد و1790 عرفت عصراً ذهبياً مهولاً. فقد أنتج فنانوها منحوتات تتنافس أكبر المتاحف في العالم على عرضها. قطع حفرت في الصخر الصلب وأخرى صنعت من الطين. «وغطى رساموها جدران القصر الملكي برسوم تُبرز تفاصيل الحياة اليومية، وتفتن زائري البلاط الملكي برفاهية الحياة في ماري. هذا القصر الذي وصلت مساحته إلى 2.5 هكتار، والذي رُفعت في باحته الداخلية نخلة اصطناعية عربوناً عن غنى المدينة. نخلة حفرت حبات البلح فيها بالذهب والفضة...» كما يؤكد مارغورون الذي لا يزال لا يغفر للملك البابلي حمورابي تدميره لهذه المدينة الدائرية المزدهرة. فجيوشه اجتاحتها وأحرقتها لدرجة أنها لن ترتفع من رمادها.
والدور السياسي والاقتصادي الذي أدّته ماري على نطاق بلاد ما بين النهرين والداخل السوري كُتب في أرشيفها الملكي، الذي لم يُتطرق له في هذه المحاضرة، لكنه يكفي لصوغ كتب وورش عمل. فهو شاهد آخر على أهمية مدن الفرات.