غرق نبع الغريّل بنفايات البشر.. وأصواف الأغنام التي يرميها الرعاة في مياهه. قبل عام، حاولت بلدية كفرزبد حل أزمة النهر بتشييد «تصوينة»، سرعان ما انهارت بفعل حوادث تدهور السيارات وإقدام بعض الأشخاص على تكسيرها لممارسة هواية السباحة. واليوم يقف المجلس البلدي عاجزاً ولا يجد أمامه سوى «دبّ الصوت» ومطالبة وزير الطاقة والمياه بالتدخل لحل الأزمة
كفرزبد ــ نقولا أبو رجيلي
نبع الغزيّل، كان اسمه، ومنه كانت تستمد الحياة معظم بلدات شرق زحلة. أما اليوم، فلم يعد «الغزيل» «أبو الهيبة»، كما تقول الأغنية، ذلك أن هيبته انكسرت وتبددت بعدما تحول النبع إلى مجرور لمياه الصرف الصحي ومكبّ للنفايات.. ومغسل لأصواف الأغنام. ففي مثل هذه الأيام، لا يعود النهر نهراً. يتحول فجأة إلى مغسل لصوف الفرش التي نبشت قبل وصول الشتاء لغسلها وتنشيفها ثم تنجيدها من جديد استعداداً لفصل الرقاد. العادة فرضت ذلك، فلا رقابة ولا من يراقبون، ورعاة الأغنام القابعون على ضفاف النهر يقصدون في مثل هذه الأيام «نهرهم» لتنظيف أغنامهم ورمي أوساخها فيه. وهو النهر الرافد نهر الليطاني، الذي كان حتى وقتٍ قريب مورداً أساسياً لأهالي المنطقة بمياه الشفة والخدمة أيضاً.
ولّت أيام «ما كان النبع نبعاً»، يقول الأهالي هناك. لكن المشكلة لم تعد محصورة هنا، فعدا تحوّله إلى مجرور ومكب بات للمكان رائحة. فلا يمكن للمارين في منطقة النهر إلا «التعطر» برائحة المجرور والنفايات المتحللة. روائح ترافق العابرين منذ بداية النهر حتى نهايته. أما الأوساخ، فحدّث ولا حرج، ففي كل يوم تزيد الكومة.. كومة أخرى. ولم تعد تنفع حلول المجلس البلدي في كفرزبد في «ردع» أصحاب المواشي عن عملهم السنوي، حيث لم يمنع الشريط الشائك الذي أقامته البلدية حول ضفاف بركة النبع، الذي يسمى شمسين أيضاً، على ارتفاع أربعة أمتار، أصحاب المواشي وبعض الأهالي، من استخدام مياهها لتنظيف صوف الأغنام. وأكثر من ذلك، لم يطل عمر التصوينة، فقد تعرضت بعد فترة من إقامتها إلى الانهيارات المتكررة بفعل حوادث انزلاق السيارات، وقيام بعض الأشخاص بخلع الباب الحديدي المثبت في حائط تصوينة الباطون الذي يصل ارتفاعه الى 4 أمتار، كانت بلديتا عنجر وكفرزبد السابقتان، قد عملتا على تشييده، بهدف منع هواة السباحة من القفز الى قعر البركة.
هذا العام عاد الوضع إلى ما كان عليه قبل إقامة «التصوينة»: صوف أغنام يسبح على سطح المياه، ونفايات متفرقة تطفو الى جانبها هنا وهناك ورائحة «غير شكل». سكان استسهلوا توجيه مياه الصرف الصحي إلى النهر.. لأنه لا وجود لأقنية الصرف. أما البلدية؟ فتقف عاجزة عن فعل أي شيء، ولا حيلة لها سوى «دبّ الصوت» ورفع كتابٍ إلى «وزير الطاقة والمياه جبران باسيل لرفع الضرر البيئي والصحي وتنظيف نبع شمسين»، كما يقول رئيس البلدية عمر الخطيب لـ«الأخبار». يشرح الخطيب أن «البلدية رفعت قبل أسبوعين كتاباً الى الوزير جبران باسيل، طالبت بموجبه الاستحصال على حق استثمار ضفاف بركة النبع لأغراض سياحيّة». وإذا أتت الموافقة «نباشر بتنظيف مياه النبع ومجاريه، ونزيل الأوساخ والنفايات من محيطه». وعلى الصعيد «المحلي»، يدرس المجلس البلدي في اجتماعه المقبل «إمكانية إعادة تأهيل التصوينة، إضافة إلى تخصيص المبالغ الماليّة اللازمة بهذا الشأن، على أن نعمل بعد ذلك على اتخاذ تدابير وإجراءات قانونيّة بحق المخالفين، بالتنسيق مع القوى الأمنيّة والقضاء المختص». لكن، إلى حين تنفيذ «سلّة» الحلول تلك، ماذا عن أهالي بلدة كفرزبد والقرى المحيطة المتضررة من تلوث النهر؟ هؤلاء لا حلّ أمامهم سوى المطالبة بمعالجة المشكلة، وهم الخائفون والقلقون على صحة أبنائهم من مخاطر تكاثر الجراثيم. أما دهون جلود الأغنام فقد تسببت أيضاً، بعد فيضان مياه النهر على الطرقات في مواضع عدة، بحصول حوادث لسيارات انزلقت عجلاتها واجتاحت الشريط الشائك لتستقر في مياه البركة. ما هو المطلوب اليوم؟ العمل على إزالة النفايات المتراكمة في محيط النهر من الجهة الشماليّة، أسوة بالاهتمام الذي تحظى به ضفة النهر في المقلب الجنوبي، حيث المتنزهات والمقاهي التابعة لأهالي بلدة عنجر. ما يطلبونه ليس كثيراً. مجرّد إجراءات «للحماية من الأمراض»، تقول داليا الجوهري، عضو «حماية الطبيعة في لبنان». يحيّر الناشطة البيئية

تتسبب جلود الأغنام بحوادث سير على الطرقات بعد فيضان مياه النهر
سؤال واحد «إذا كان ما يطفو من نفايات على سطح مياه البركة بهذا الحجم، فكيف سيكون عليه المشهد في القعر وعلى طول مجرى النهر؟». لا جواب عن السؤال، لكن «الأكيد أن الأضرار التي تخلّفها هذه النفايات الصلبة لا تعدّ ولا تحصى، فإضافة إلى التشوّه البصري للمشهد الطبيعي وانسداد الممرات المائيّة وتحوّلها عن مجاري قنواتها، هناك مؤثرات سلبيّة على الصحة نتيجة ارتفاع نسبة التلوث الجرثوميّ». وبصفتها أخصائيّة في علم الصحة البيئيّة، حذّرت الجوهري من «أن استمرار الوضع على هذا النحو، سيؤدي حتماً الى هلاك بعض أنواع الحيوانات النهريّة، وذلك جراء انخفاض نسبة الأوكسيجين في المياه، فضلاً عن شلل النباتات والأعشاب النهريّة التي يتسبب الصدأ بتآكل جذوعها. ولفتت الجوهري الى أن «المطلوب هو إزالة التعدّي عن النبع، وهو موضوع متابعة بين الجمعية وبلديّة كفرزبد، لكن الجهود تنصبّ حالياً على معالجة وضع المياه من ناحية تأمين سلامتها».
ناقوس الخطر يدق، والرعاة غير آبهين بما يجري. والسبب؟ أنه «كل عمرنا عم نغسل الصوف ببركة شمسين وما حدا انصاب بمرض، من وين طلعولنا بهالقصص هلق ما بعرف»، يقول أحد الرعاة الذي رفض الكشف عن اسمه. لا يجد الراعي مبرراً لكل هذا، متسائلاً «عن المكان البديل لتغسيل الأصواف؟». ينسى الراعي المشكلة، كأن لا علاقة له بها، ويدخل في كيفية مراحل تنظيف الأصواف، ويقول «نبدأ بغسل الصوف جيداً من خلال نزع الأوساخ والحشرات المعششة بين شعيراته، وبما أن ذلك يتطلب استهلاك كميات كبيرة من المياه، يلجأ أصحاب المواشي ومعظم الأهالي إلى برك الينابيع ومجاري الأنهار، بعد جزّ الصوف عن جلود الأغنام مع بداية فصل الربيع».