سمير يوسفبُعيْدَ الغارات المتتالية، كانت امرأة العائلة الوحيدة تلتقط حبوب القمح من بين قطع الأسمنت المتناثرة على ذاكرة البيْدر. اندفعت الآليّات نحو حقول الاختبار، تُمزّق أوردة تراب لم نتذوّقه يوماً. ومن حيثُ لا ندري، ظهرت عجوز معمّرة، فركعت وقبّلت يدَ رفيق السلاح والموت. في الحرب، أقمنا جنازة لزوجاتنا، لرغبات قضّت مضاجعنا، صنعنا مراسم تأبين للأحياء، تماماً كما يقيم الأحياء جنازات للأموات. ذلكَ أنّ خيطان النّول التي استخدمناها تبلّلت بالبراز و الكُفر والدماء. كان يمكن أن ينقطع أحدها في مناوشات جديدة، لكنها، بدل أن تنقطع، اشتدّت فأَضحت أوتار آلة موسيقيّة، تزفّ السموم والنشاز على أبواب جهنّم. عندما رشّت طائرات العدو مناشيرها لم نجرؤ على أن نضرم ناراً فيها كي

لملمنا من الأرض المحروقة مناشير أثبتت عدم فاعليتها طوال الحرب

لا ترانا طوافاته، لكنّنا لم نأبه بإشعال لهب هائل بعدما لملمنا من الأرض المحروقة مناشير أثبتت عدم فاعليتها طوال فترة الحرب. الذئاب المعادية الفولاذيّة كانت لا تزال تتقدّم تجاه الناحيّة الأخرى من النهر، أي نحونا، تهرس جسوراً وأكفاناً وتدفع بأقدار الموت أمامها. كلّ مخلوق أو غير مخلوق آجِل، من كتاب مقدّس أو من كنوز الميتولوجيا، كان يعدو صوبنا بين ثنيّات الريح المقزّزة المحملة برائحة الآلام، يزحف مستأصلاً بموجه كلّ روح خضراء نائمة.
رجل جهاز اللاسلكي جال علينا واحداً تلو الآخر ووزّع سجائره على الجميع. بسبب توتّر الأجواء واحتقاننا من خيانة الأنظمة، كان البعض جاهزاً ليقضم السجائر قضماً. على بعد أميال سمعنا طقطقات الجليد تحت جنازير حاملات الجند والملّالات، وجميعنا تخيّلناها قطع جليد بمساحة بلد، تتصدّع، ونسمع صدى الجحافل تقترب، نسمعُ ليل العبث يقول «إليكم أتيْت». بعد عشر دقائق، ركض قناص المجموعة الوحيد إلى السطح وطلب أن يرافقه أحد الرفاق. لا أذكر لمَ كان بيْننا أصلاً. من على سطح المبنى أسقط طائرة «شبح». بعد حين عاد ونزل. قال لنا: «ستنامون الليلة من دون قتال»، لكنّ أحداً فينا لم يصدّق.