باتت قضية مسرح الأنجا في طرابلس سؤالاً يطرح على صعيد لبنان. فالمخالفة التي جرت في هدم المبنى أخّرت إعطاء الإذن بالبناء، لكن المالك حصل عليه. فوزارة الثقافة وقعت في شرك الحلول الوسطية التي تحاول أن تدمج بين الإنماء والمحافظة
جوان فرشخ بجالي
تعود أزمة هدم مسرح الأنجا الى الواجهة بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الثقافة سليم وردة. مؤتمر حاول من خلاله أن يشرح الوزير ما حدث من ملابسات. أراد الوزير المؤتمر قوياً ودفاعياً عن التراث، لكنه أتى في الواقع ليبرز صعوبة موقف الوزارة في معضلات شبيهة بمسرح الأنجا. فكما قال الوزير بطلاقة: «وزارة الثقافة (المديرية العامة للآثار) هي المسؤول الوحيد في لبنان عن الحفاظ على البيوت التاريخية»، وهي السلطة التي تحدد أهمية المباني وضرورة المحافظة عليها للذاكرة الجماعية، أو لتأكيد هوية المدينة وتاريخها. وتسير وزارة الثقافة (المديرية العامة للآثار) في هذه المعركة شبه وحيدة. فمجلس النواب يرفض أن يمرر قانون حماية الأبنية التراثية مع العلم بأن اللجان المختصة قد انتهت من دراسته ولم يبق إلا مناقشته والموافقة عليه ليعرف لبنان طريقاً جديداً في اتجاه البقاء على تراثه وهويته المعمارية. لكن، بما أن الحفاظ على هذا التاريخ سيُفقد رجال السياسة والمال أرباحهم الطائلة في مجال العقارات، يستحيل تمرير القانون. فتتحول معركة الوزارة إذاً الى المفاوضات مع أصحاب العقارات. إنه البحث في الحل الوسطي الذي يضمن شكلياً المحافظة على البناء عبر إبقاء الواجهات على حالها، لكن في المضمون يعطي لمالكي العقار الحق في التصرف. فالوزير وردة لا يودّ أن يبرز بصورة «المدافع عن التراث وقاتل الاستثمار» خصوصاً أنه لا يملك الأدوات الضرورية لخوض هذه المعارك الكبيرة. لكن وردة يحاول أن «يتحايل» على الواقع فيعلن فكرة إطلاق صندوق مشترك لشراء البيوت الأثرية في طرابلس، صندوق تساهم فيه البلدية ولجنة تجار طرابلس... صندوق يحاول من خلاله أن يشاركهم القرار في المحافظة ويشاركوه العبء المادي المتراكم من هذا القرار. وهنا يطرح السؤال: لماذا لا تتدخل البلديات مباشرة في عملية المحافظة على التراث؟ لماذا لا تشتري البلديات الأبنية المهمة تراثياً؟ لماذا تختبئ كل الفعاليات خلف وزارة الثقافة التي بات الحل الوسطي همها الأول؟ ولأن الوزارة تريد أن تجد حلولاً، فهي مستعدة لأن تغضّ النظر عن عملية التحايل على الواقع التي لجأ إليها مالك العقار الحالي (النائب محمد كبارة

الوزير وردة لا يودّ أن يبرز بصورة «المدافع عن التراث وقاتل الاستثمار»
وشركاؤه) لم تعد تهمهم. فهو حينما اشترى العقار قبل سنوات، كان يدرك تماماً أنه على لائحة الجرد العام وأنه قانونياً لا يحق له التلاعب به. لكنه لم يعبأ بالقوانين فهدّ المبنى من الداخل وعلى مرحلتين حتى بات خراباً وأكوام أتربة وحجارة. وبدأ حينها مفاوضاته مع السلطات المختصة على أساس وما العمل الآن؟ هل يرفع المعلم عن لائحة الجرد العام ويستبدله بمركز تجاري يرتفع ثمانية طوابق؟ لسنتين متتاليتين تجاهلت الوزارة الواقع، بعدما أكدت مع البلدية ضرورة إعادة بناء المبنى على شكله الأولي على نفقة المالك. وحينما لم ينفذ المالك القرار، لم تعمد بلدية طرابلس الى البدء بالورشة على نفقتها كما أكدت في قراراتها السابقة. وبقيت القرارات حبراً على ورق. ومع الانتخابات البلدية الجديدة، قدم طلب تحويل المسرح الى مركز تجاري، وأحيل الملف الى المديرية العامة للآثار، التي تحت غطاء وزارة الثقافة عملت على إيجاد حل وسطي: إعادة بناء الواجهة وحد الارتفاع بثلاث طبقات فقط. خسر المالك الجديد، أو على الأقل لن يجني الاموال الطائلة كما كان يتوقع حينما حدد له الارتفاع، لكنه انتظر سنتين وخرج من لعبته على القانون شبه منتصر. وهذا ما لا يقبله اهالي طرابلس. إنهم يرفضون الحل الوسطي الذي قدمته الوزارة. المسألة تتعلق بالنسبة إلى البعض بتاريخ مسرح الأنجا وأهميته، أما بالنسبة إلى البعض الآخر فهم يرفضون فتح باب التنازلات! هم أدرى بمدينتهم، ويعرفون أن الأنجا ليس إلا بداية طريق سريعة قد تؤدي بالتاريخ العثماني للفيحاء من باب إدخال التطور إلى عاصمة الشمال التي لا تعرف الإنماء.