نادين كنعانشاب يطل على عقده الثامن بكل ما يملك من أحلام ونشاط ومخططات. مع أوّل جلسة شعرية حضرها لمشايخ عائلته، قرر الإبحار في ركاب النظم والقوافي. كان ذلك قبل نصف قرن. في غرفة جلوس منزله في المصيطبة (بيروت)، تنتشر على الجدران صوره مع كبار الشخصيات اللبنانية. هذا عدا شهادات التقدير وأوسمة الاستحقاق التي نالها برتبها المختلفة. برحابة صدر كبيرة وابتسامة عريضة، يأخذنا الشيخ نزار الحرّ في جولة داخل متحفه الصغير. يسرد لنا قصّة كلّ صورة ووسام. «ما زال هناك الكثير، لكنّني انتقيت الأحب إلى قلبي لأعرضه». وحده حضور المرأة قادر على منافسة أوسمة التقدير وصور الماضي الجميل. ليست مجرد ملهمة، بل من نفخت الروح في جسده وشِعْره، وجعلت منه عاشقاً دائماً، لا يستطيع الكتابة من دون غرام. «وقعت في الحب خمسين مرة تقريباً»، يخبرنا بنبرة واثقة. «وهي ليست علاقات عابرة بل قصص حقيقية» يؤكّد.
الابن الأصغر والمدلل للشيخ مصطفى الحر كتب الجمال والأرض والحريّة والمقاومة. تأثر بحلاوة قريته «جباع» (جنوب لبنان) وكثرة ينابيعها، وطيب تفاحها، وصلابة جارها جبل صافي كما كتب في إحدى قصائده التي غنّاها محمد جمال. في شعره، حافظ الحرّ على إرث الأجداد، فكتب شعر التفعيلة، مبقياً في خباياه ثورةً لا تهدأ.
في بيروت 1931، ولد الحر وكوّن مع العاصمة اللبنانية علاقة تتعدى حدود الانتماء. إنّها مدينته، حيث اختبر الوجود بحلوه ومرّه. «حتى مُرّ بيروت فيه لذة ما بعدها لذة». تلقّى تعليمه في «الكلية العاملية»، وفي «المقاصد الإسلامية». ومن الأخيرة وجد دربه إلى «الإذاعة اللبنانية» عام 1956، حين أبلغه مدير «المقاصد» عمر فروخ رغبة مدير الإذاعة فؤاد قاسم في مقابلته. وعند لقائه، أبدى قاسم أمامه إعجابه بقصيدتين له نُشرتا في مجلة «كل شيء»، وأعرب له عن رغبته في تلحينهما، لتغنيهما جوقة الإذاعة. ومذّاك تحول الحر إلى ناظم للعديد من القصائد الغنائية للإذاعة.
بأسلوب قصصي فريد وبابتسامة دائمة، قد تغيّبها بعض التنهدات ودمعات الحنين إلى أيام مضت، ينقلنا «أحد شهود الزمن الجميل» كما يصفه المؤرخ إبراهيم بيضون، من حادثة إلى أخرى، ومن طرفة إلى أخرى. يحكي عن أسماء معروفة وشخصيات بارزة عاصرها، من أمين الريحاني، وحليم الرومي، وأحمد رامي، إلى إدمون رزق، وكامل مروة، ومحمد جمال، وسعيد فريحة وغيرهم. وفي كلّ هذه الحكايات، يحتفظ مقهى L’étoile (الصنائع) ملتقى الشعراء حينها، و«الكاس» والجلسة الأنيسة، بأدوار البطولة المطلقة. الرئيس الفخري لـ«الجمعية الفرنسية للمؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى» (ساسيم)، كان مقرباً جداً من الرئيس السابق للمجلس النيابي كامل الأسعد، «بحكم تأييد آل الحر تاريخياً له». جمعته صداقة بعادل عسيران، رغم الخلاف في توجهاتهما السياسيّة. لاحقاً ابتعد عن الأسعد «بسبب سوء فهم بسيط». طلب منه الإمام موسى الصدر العمل في «المجلس الشيعي الأعلى» لمساعدته على إدارة شؤون الناس، رغم علمه بأنّه في خط سياسي مختلف، كما يخبرنا. خاطبه قائلاً: «يا نزار... ستدخل الندوة البرلمانية من هنا... وسترى». يقول الحر ممازحاً: «عملت في المجلس وزادت أعداد الأشخاص الذين كانوا يأتون إليّ لطلب المساعدة، ولحسن حظي كانت الأغلبية من النساء!». لم يدخل الحرّ البرلمان، بسبب «تكريس الوقت للعمل، إضافةً إلى تغييب الإمام». لقد استخدم صداقاته لخدمة الآخرين، من دون أن يصر على تبوّء مناصب سياسية. وهذا ما يعتقد الحر أنه قد يكون خطأً ارتكبه حينها، لكنه لا يندم على خياراته. بعد عام على تغييب الإمام الصدر تقريباً، أي عام 1979، قرر نزار الحر ترك «المجلس الشيعي الأعلى» والعودة إلى «الإذاعة اللبنانية»، التي قضى فيها ما يزيد عن 15 عاماً، مصحّحاً لغوياً للنصوص الإذاعية. كذلك عمل في الصحافة لمدة لم تتعدّ ثلاث سنوات في جريدتي «الأحد» و«الكفاح العربي».
كتب ابن جبل عامل كلمات العديد من الأغنيات المعروفة لثلة من مشاهير الغناء في العالم العربي، مثل سعاد محمد، ونور الهدى، ومحمد جمال، ونصري شمس الدين، ونجاح سلام، وسميرة توفيق، وجوزف عازار، وغيرهم... كما غنّى له وديع الصافي بدايةً قصيدة «جئت بغداد»، بعد انقلاب عبدالكريم قاسم في العراق عام 1958، ثم «سبحان من جمّلك» و«قولي أحبك واكذبي» وغيرها. أما صباح، فغنت من كلماته «ع اليادي اليادي» و«قلبي على إنسان» وغيرهما. كتب الحر قصيدة «الحبيب العربي» لأم كلثوم عام 1975، ورغم أنّ «كوكب الشرق» كانت متحمسة لغنائها، فإنّ وفاتها حالت دون ذلك. يحب نزار الحر الاستماع إلى الموسيقى التركية وصوت سعاد محمد، ويعشق الأذان بصوت نور الهدى. وإلى جانب الشعر، يهوى تجميع السُّبحات، ولديه مجموعة كبيرة تزيد عن 1500 سُبحة مصنوعة من الأحجار الكريمة. يخيفه ركوب الطائرة كثيراً، لكنّه اضطر إلى السفر بواسطتها إلى مصر، بينما سافر إلى سوريا والأردن برّاً. يعترف الحر بمزاجه الصعب في اختيار الطعام. هو لا يحب إلّا اللحوم على أنواعها، وطبخة المغربية، ويكره ما عداها... الأمر الذي يسبّب إرباكات ومشقّات يوميّة لزوجته «الستّ فوزيّة».
يتّصف نزار الحر بغزارة كتاباته الشعرية، إلا أنه لم يصدر ديوانه الأول «نزاريات حرة» إلا حتى عام 1996. وإلى جانب هذا الديوان، أصدر تسعة أخرى، بينها «قصائد مبحرة»، و«كلمات ملونة»، و«قوس قزح»، و«خاتم الأنبياء والأئمة الأوصياء»، كما صدر له أخيراً ديوان «باسم الوطن والحب». كتب الحر ثلث مذكّراته التي تحتوي على تفاصيل مهمة عن علاقاته بمختلف الشخصيات السياسية اللبنانية، لكنه «بحاجة إلى مزيد من الوقت والمزاج لإكمالها». الفكرة التي تستحوذ على جل اهتمامه حاليّاً هي إعداد كتاب عن ذكرياته مع شعراء عايشهم أمثال أمين الريحاني، وبولس سلامة، والأخطل الصغير، وعبد الله العلايلي، وعمر أبو ريشة.
بعد ساعتين ونصف ساعة من الكلام المباح عن النساء والشعر، وذكريات بيروت، تودّع نزار الحرّ، وأنت على يقين أنّ السنين التي كست رأسه ببيض الشعرات وجعّدت ملامحه، لم تنل من يفاعة روحه بعد.


5 تواريخ

1931
الولادة في بيروت

1956
بدأ عمله في «الإذاعة اللبنانية»

1967
غنّى له وديع الصافي «قولي أحبك واكذبي»

1996
أصدر ديوانه الأول «نزاريات حرّة» (دار بلال)

2010
يعدّ لكتاب عن ذكرياته مع شعراء عايشهم