أنسي الحاجلا تنتبهْ، رجاءً، دعني أستغرق في إشفاقي على نفسي. لا أفهم نَهيَ الأساتذة عن هذه العادة. نهيٌ ظالم لا يصدر إلّا عن أناني يريد احتكار النرجسيّة. عن كارهٍ بلا رحمة. عن قايين وسلالته.
وعمَّن يريدك أن تحبّه هو وحده دون سواه ودون ذاتك.
كتلك المرأة التي لم تكن تنكر عليك أوجاعك وإنّما تأوّهك منها.
الواقع أنّك أبله مسكين كما وصفك مرّة صديق دون أن يقولها بالكلام بل بنظرة رثاء وحركةِ انقباضٍ في فمه تقولان أبلغ ما يكون ازدراءه لك وشفقته عليك. ازدراءٌ في محلّه مشفوع بإشفاق يبرهن عن واقعيته. فالازدراء هو لواقع الحال وأمّا الإشفاق فليأسه من إمكان تغلّبك على غبائك.
شريطٌ هستيريّ من العلاقات الفارغة والمشاوير العقيمة والأرق والتدخين والقهر والهجس والتوتر والوحشة والتمزّق والزحف على الخيالات، شريطٌ من الهدر، ولا ثانية تعبّئ الرأس وترفع القلب وتبقى إلى يوم يومين ثلاثة بعدها. تفْل في كعب الفنجان. إلى أن جاءت الثواني الضخمة، القصص الجديّة الباهرة العمق، إلى أن جاءت الأحداث القاطعة الظَهْر.
ما لنا ولها. أثقل ما يكون التذكُّر حين يقع في مستنقعات المرارة. لذلك لا تُقرأ غير مذكّرات الخفّة. مرور الكرام. يكفي الواحد قبره فلا تنكبه بقبورك.
يقول المثل مَنْ كتمَ علّته مات بها. أَفْضَل. بادرةُ ذوقٍ عزَّ نظيرها. الكثافة التي تغطّي الكتمان أجمل نوعٍ من الرجولة، هي الرجولة المعزّزة بالخَفَر ونكران الذات. رجولةٌ غير موجودة تقريباً. مثل المحبّة، النخوة، الإعجاب المجاني، هل تصدّق أنه لا يزال في الدنيا إعجابٌ مجانيّ؟ ويعبّر عن نفسه بسخاء قد يصل إلى حدّ الهَبَل؟ هناك، بلى هناك. لا يزال شيء منه. حتّى في مستهلّ هذا العصر الصيني البازغ سعيداً بابتسامته المخيفة. الصين التي نزلت إلى العالم بمئات ملايينها العاملة لإنتاج كلّ شيء فوراً بأرخص الأسعار. رغم العصر الصيني البازغ والعصر الأميركي الآخذة أحاديّته بالقلق، وكلاهما طوفان يبحث عن مناطق لم يُغرقها بعد، رغم هذه الامبراطوريّات الساحقة الماحقة لا يزال ثمّة أطفال من كل الأعمار. ألم تتساءل من أين لقارّةٍ كآسيا، مترهّلة عجوز مدكوكة بالتعاسات دكّاً ضجرانةً إلى الأبد من نعاسها ونومها وأديانها وألوانها وبهارها وزنجبيلها وبخورها وطالبانها، من أين لمثل هذا الكائن العجيب الغريب القدرة بعد على إنتاج أطفال!؟ وأفريقيا المحقونة بفيروسات الموت المستورد؟ وأوروبا التي لم يعد جنسٌ يشتهي الجنس الآخر فيها إلّا بألف معاملة؟
الأطفال الذين ما زالوا يولدون هم السؤال الأكبر. ولا تَقُلْ إنهم يأتون لأنهم لا يعرفون، فأطفال اليوم يعرفون ويأتون ولا يتّكلون على أهلهم إلّا بالحدّ الأدنى. ومع هذا يأتون. أطفالٌ صاروا آباءنا وأمّهاتنا بعدما فقدنا نحن رشدنا وعدنا أطفالاً ولكنْ بالمعنى الأحمق. أطفالُ اليومِ نصفٌ طفولة نصفٌ كهولة، وبعد قليل من بطون أمّهاتهم رأساً إلى الجامعة. وبعد قليل رأساً إلى السلطة. وبعد قليل رأساً إلى الشيخوخة.
■ ■ ■
أشكر اللّه أنّي لستُ مجبراً على أن أكتب مقالاً سياسيّاً، وأن الجريدةَ تتحمّلني على علّاتي. وما أدراكَ ما علّاتي. كيف يستطيع طلال سلمان، عبّاس بيضون، سمير عطا الله، غسّان شربل، خالد صاغيّة، كيف يستطيع كتّاب الزوايا اليوميّة أن يواكبوا التطوّرات ويحلّلوها ويعلّقوا عليها؟ هذه الموهبة في سرعة اتخاذ موقف. هذه الجرأة على الفرز. هذه القدرة على عدم الضياع، على الاحتفاظ برباطة الجأش في خضمّ المعارك وزوابع الصراخ وخبيط الغرائز. لو تعرف كم أحسدهم. لا طعم للصحافة بدونهم. هؤلاء هم القادة والزعماء لا أولئك القادة والزعماء. إنهم ملحُ التاريخ اليومي. ولهم الأجر الكبير عند اللّه على تحمُّل تفاهات السياسيّين وفجورهم وفوق التحمُّل اجتراحُ المعجزات لإسباغ الأهميّة على مواقفهم وإقناع القرّاء بقبض هذه الأهميّة وتلك المواقف. موهبةٌ تبلغ حدود العبقريّة.
لو تعرف كم أحسدهم. بكلّ صدق. وبكل خجلٍ من ضعف شخصيّتي وميوعتي. الشكر للّه على كوني غير ملتزمٍ بالكتابة السياسيّة ولا بالكتابة اليوميّة. صار عمري ألف سنة ولا أزال أجهل إنْ كنتُ متمسّكاً بلبنانيّتي أم مستغنياً عنها. أأنا مؤمن أم مشكّك أم ملحد؟ مع سوريا الطبيعيّة أم الامبراطوريّة العربيّة؟ مع الحريري أم ضدّه؟ مع الغرب أم مع البدو؟ مع أيّ موارنة من الموارنة وأيّ شيعة من الشيعة؟ مع أيّ قميصٍ من قمصاني ومهدّئٍ من مهدّئاتي؟ قَسَماً لا أُبالغ. للّه درّكَ يا ناجي ويا أمّ كلثوم وهذه الـ«واثق الخطوةِ يمشي ملكاً»! لا أثق بنفسي حتّى وأنا سكران. لا أجرؤ على أن أسكر حتّى لو سكرت. قعرُ روحي مثقوب بلا نهاية.
ولا أُعْجَبُ بشيءٍ ولا بأحدٍ كإعجابي بمَن لا يخاف.
حين أقرأ حسن صبرا في «الشراع» لا أصدّق عينيّ. من أين يأتي هذا الرجل بهذه الشجاعة المستهترة استهتاراً مطلقاً بالمحاذير؟ إنه يكتب ما لا يجرؤ غيره على مجرّد البوح بنصف ربعه حول فنجان قهوة مع ظلّه لا مع صاحبه. أحببته أو كرهته، هذا رجل. منحازٌ لـ14 ضدّ 8، هذا رجل. وانحيازه ضدّ 8 فضلٌ له أكبر لأن 8 هي المخيفة.
لا أحسدُ أحداً كما أحسد الذي اختارَ وارتاح. هاملت أشقى شخصيّة عذَّبتْ مخيّلات البشر. أكون أو لا أكون. أن لا أكون خيرٌ من أن أجذّف في هذا التيه. صار هاملت ذريعة للأُلعبان. كان الجيل السابق لجيلي يتباهى بصفةِ اللعنة. «أنا ملعون» كان الواحد يقول، وينفّض عليكَ رماد سيكارته تعبيراً عن «وجوديّته». لم يكن أحد ملعوناً، كالعادة، غير الفقراء. جيلي صار يتباهى بأنه جيلُ الضياع، والأشدّ براعة هو مَن وَجَد الصيغة المثلى لفلسفة تأرجحه: «ما وراء الخير والشر». سامح اللّه صاحبها. لا اليمين ولا اليسار، لا إسلام ولا مسيحيّة، لا 14 ولا 8، لا أميركا ولا الشيوعيّة، وأخيراً لا رجل ولا امرأة.
ولا حياة ولا موت. كنتُ لأقول إنه الجبنُ متلطّياً بالحيرة لولا أمانة تضطرني شخصيّاً إلى الاعتراف بأنّها فعلاً حيرة وليست جبانة. وصلتُ إلى مرحلةٍ لم يعد فيها العمرُ شهوة بل عبء، ولم يعد فيها الخوف خوفاً من الموت بل من التهرّؤ والبهدلة، وأمامهما يصبح الموت برصاصة هديّة. لا، ليست الذبذبة ناجمة دوماً عن خوف ولا الحيرة مرادفة حتماً للتقيّة، مع أنهما عنصران حضرا بكثرة في حياتي. الحيرةُ هي أحياناً عدم قدرةٍ على الاختيار بين شرّين كما هي العجز عن المفاضلة بين خيرين. مرّات تكون، أنت الحائر، أسوأ ممّا تُخيَّر فيه، أسوأ من المعروض عليك أو المفروض عليك، ويكون الحقّ عليك لا على المتصارعَين اللذين تتظاهر بالنفور منهما معاً. ومع هذا لا تُقْدم على الاختيار. كأنك بحاجةٍ إلى أبٍ يختار عنك. بعض الآباء، حقّاً، لا يجوز أن يموتوا ما دامَ أبناؤهم قاصرين.
■ ■ ■
لا أدري إنْ كان الوضع الراهن يستحقّ هذا القَدْر من التواضع حياله، ولكنّها ملاحظةٌ لا بأسَ بتسجيلها. نحنُ المتكبّرين على اتخاذ موقف منحاز والمتستّرين بالعبارات المبهمة الفضفاضة والهاربين من الموضوعات الساخنة إلى الإنشائيّات والعموميّات والذكريات والعواطف الغراميّة، فضلاً عن رثاءِ الذات والبكاء على لبنان الستّينات وتوهُّم السَلَف دائماً أفضل من الخَلَف، نحن القرفانين استمنائيي ماضٍ ثلاثةُ أرباعهِ أوهام، نحن غالباً ما تسبّبتْ مواقفنا ومواقف أمثالنا من المتراقصين وعشّاق إرضاء الجميع، بتفاقم المشكلات واندلاع الفتن. قديماً قيل والحقّ مع قائلها: لا البارد شرّ ولا الساخن بل الفاتر. أضفْ: والذي يريد إرضاء الجميع.
■ ■ ■
لا تنتبهْ، أرجوك، مجرّدَ نَفْضُ جناح. فلتقعد معظم الأشياء على قلبنا ما دمنا مغلوبين. ولكن هناك أشياء يشبه قولها فتح شبّاك السجن للهواء. ما دام المختنق سوف يختنق مهما أجّلها، ماذا يضير أنْ يفتح الشبّاك خمس دقائق؟
أمامي كتابٌ جديد وضعَتْه جمانة حدّاد بالإنكليزيّة وترجمته آن ـــــ لور تيسّو إلى الفرنسيّة: «قتلتُ شهرزاد». دار «سندباد». منتهى الساديّة: سندباد أحد أبناء شهرزاد يتولّى إذاعة نبأ موتها. «ولا مرّة كانت جريمة بهذا القَدْر من الفرح ـــــ لا بل من الأخلاقيّة»، كما تقول أتيل عدنان في مقدّمتها. مثل العادة تحت قلم جمانة: عَصَبٌ يغلي وموجٌ يتصاعد ويتصارع ويخبط الشطّ خَبْطَ الحياة للموت. وأمامي أيضاً جورج شامي وروايته الجديدة «ذكريات عارية» عن «رياض الريّس للكتب والنشر»، وقبله كتاب عن «جورج شامي والمسّ الجمالي» لأنطوان يزبك عن «دار الأجيال للدراسات والنشر». جورج شامي أحد أركان القصّة الحديثة في لبنان، برز هو ويوسف حبشي الأشقر في وقتٍ واحد. كلاهما مظلوم. مثل جميع الذين لم يؤسّسوا حولهم جماعات ذكْر و«جمعيّات» تأليه كأخينا جبران. لقد بنى جورج شامي عالماً قصصيّاً يتماوج بين التأمّل والعنف، بين الذكاء والحدس، بين الذات والمجتمع. عالمٌ ينطوي على الكثير من مفاتيح شخصيّة لبنانيّة معيّنة خلال العديد من تقلّبات وجودها. ينكأ جراحاً ليغوص على أعماق. يمسكُ موضعَ الوجعِ ويتفرَّس فيه، مسلّطاً عليه نوراً لا يرحم. ولغته خاصة به. لقد ظلم الدهر جورج شامي قبل أن يظلمه النقّاد، إذ أكلت الصحافة عمره قبل أن تشرّده الحرب. كتاب أنطوان يزبك خطوة على طريق إيصال بعض الحقّ إلى موهبةٍ قصصيّةٍ وَفَتْ بما بشَّرَتْ به يومَ إطلالتها.
■ ■ ■
... ولا تسأل هل تقع الحرب. أهلها أنفسهم صاروا مثل هاملت. نخوضها أو لا نخوضها. لعلّهم هم أيضاً يفتقدون الأب.
■ ■ ■
هل يمكن أن يكفّ العظماء عن قولِ عبارة «في هذه الظروف الحسّاسة والدقيقة التي يمرّ بها الوطن»؟ خاصة حين يتحفوننا بمرآهم على الشاشات؟ مضى على هذه الظروف وهي دقيقة وحسّاسة ومصيريّة ومفصليّة آلاف السنين، ألم يؤذن لها أن تكون يوماً ظروفاً ضاحكة، مثلاً؟ أو مناسِبة، مجرّد مناسِبة؟ هل مضى يومٌ نامت فيه شعوبُ هذه الأمّة غير مرتاعة واستيقظت منتعشة من الفرح؟
كم أفتقد محمد الماغوط! رجاءً ممَّن يمتلك كتابه «سأخون وطني» أن يعود إليه. شلّالُ فكفكة عِقَد. وحشُ استهزاء بالمحنّطات والأكاذيب. لا يصل أحد إلى كاحله. رجاء قهقهوا على حساب الماغوط، دعوه يذكّركم بأن هناك مَن كان حيّاً في هذه الجموع، ومَن كان ظريفاً. ومَن كان، إنْ لم يكن حرّاً تماماً كما يشتهي، فعلى الأقل يُحرّر قرّاءه وهو يتلوّى أمامهم مذبوحاً من القمع. وكان يُبلّغ لنا صدقه وحقيقة رأيه وقاع معاناته بألف توريةٍ وتلميح وتَشظّي قهر، وهذا العبقريّ الذبيح لم يسمح ولا لحظة للبوم بأن يحطّ عليه. كان يمنحك أضخم قهقهة وهو بين أنياب الكابوس.
لصديقٍ زاره فجأة «وفيه من صفاتِ المخبرِ أكثر ممّا فيه من صفات الزائر»، وسأله ماذا سيهدي إلى أمّه في عيد الأمّ قال الماغوط: «أتمنّى أن أوقظها صباح عيد الأمّ وأساعدها على ارتداء ملابسها وغسل وجهها ويديها المعروقتين، ثم أَلفّها، بعكّازها وظهرها المحدودب وفانوس تنقّلاتها، بورقِ السيلوفان، وآخذها بيدي وأهديها هي إلى أحد أقبية المخابرات... ليرفعوا قدميها العجوزين البائستين أمام عينيّ، قدميها حيث آثار روث البقر الجاف ما زالت مدفونة في شقوقهما العميقة (لقد كان روث البقر الجاف هو أوبيك الفقراء تلك الأيام) ويجلدوها على قدميها ورأسها وظهرها وتجاعيد وجهها حتّى تكلّ أيديهم... لأنّها ولَدَتني في هذه المنطقة».
■ ■ ■
انتبهْ، لم أكن صاحياً.
كنتَ أنتَ صاحياً نيابةً عنّا كلينا.
وهذا هو المطلوب بل هذه هي الحال على الدوام: واحدٌ نائم عن الآخر، الآخر الصاحي عن نائميه...