كانت تدرس الفلسفة في القاهرة حين احتلّت العصابات الصهيونيّة فلسطين. من يومها لم تر عيناها القدس وأحجارها الزهريّة العتيقة. تجذّرت في بيروت حيث عاشت وتزوجت وزاولت مهنة التدريس، وخاضت مجالات الرواية والنقد... الكاتبة الثمانينيّة ما زالت تمارس طقوسها بالحبر والورق
رنا حايك
اسم نازك سابا يارد مألوف في أذهان تلاميذ لبنان. يعيدهم إلى كتب القراءة العربيّة في الصفوف التكميلية. لكن، وراء ذلك الاسم المألوف أكثر من «درس» واحد. وراءه سيرة غنيّة يسكنها الأدب والنقد، وتثقلها مرارة الأوطان، والحروب، والرحيل المتكرّر. عينا الروائية والناقدة نازك سابا يارد تدمعان عند ذكر مسقط رأسها: القدس. ذلك المكان الذي «لن يتاح لي العودة إليه»، كما تقول بصوت مكسور. في حي «البقعة الفوقا»، وُلدَت عام 1928، لوالدة لبنانية، هي حلا معلوف، ولوالد فلسطيني «وطنيّ» كما تصفه، رفض إدخالها وإخوتها إلى مدارس سلطة الانتداب الإنكليزية. أدخلهم إلى المدرسة الألمانيّة، وهو قرار تشكره عليه اليوم لأنه أكسبها لغة إضافيّة. لكنّ المحاسب في السلطة الفلسطينية آنذاك، إسكندر سابا، لم يحسب حساباً لضروب التاريخ والسياسة. في عام 1939، اندلعت الحرب العالمية الثانية، وأقفل الإنكليز أبواب المدرسة الألمانية في القدس. قضت يارد سنة في المنزل تتلقى دروساً في اللغة الإنكليزية كي يتاح لها الانتساب إلى الفرع الإنكليزي من مدرسة راهبات مار يوسف الظهور Les sœurs de Saint-Joseph de l’Apparition. وحين نالت الشهادة الثانوية، كان والدها قد تقاعد، فتعسّر عليه مادياً إرسال ابنته إلى «الجامعة الأميركية في بيروت» لتكمل دراستها. لكنّ خلاصها جاء عن طريق منحة من «جامعة فؤاد الأول» (القاهرة حالياً). في عام 1945، تركت الصبية مكاناً «بيوته من الحجر الزهري لم أره في أي مدينة أخرى زرتها»، ويمّمت شطر «أم الدنيا».
كان العدّ العكسي للعلاقة الموجعة مع الأوطان قد بدأ. حين كانت الشابة تكتشف ولعها بالأوبرا، في المبنى القاهري المهيب، وتتابع دروسها في الفلسفة، كانت العصابات الصهيونيّة تتوغّل أكثر فأكثر في قلب فلسطين. أبى الوالد أن يترك أرضه، فاعتُقل هو والعائلة عام 1948، وبدأت رحلة الشتات. عرفت نازك، عن طريق صديقها إبراهيم يارد الذي يدرس في القاهرة أيضاً، وسيصبح زوجها لاحقاً، أنّ أختها موجودة في مخيم للاجئين الفلسطينيين في سيناء، فما كان منها إلا أن قصدت مكتب وزير الحربية المصري من دون سابق معرفة، ليساعدها في إيصال أختها إلى القاهرة. أمّا هناك، في أرض الزهر والليمون، فقد توفي الوالد بعد أشهر من الإفراج عنه، ودفن في مكان غير معروف حتى اليوم، فيما انتقل من بقي من الأسرة إلى لبنان.
بعد نيلها شهادة الفلسفة، علّمت في مدرسة مصرية، وأتاحت لها ورقة رسمية استصدرتها منها دخول لبنان في أواخر عام 1949. لم يبخل عليها الوطن الجديد بشيء. في «سويسرا الشرق»، تزوجت، وأنجبت، وعلّمت وتعلَّمت، وكتبت ونشرت، ثم... خُطِفَت خلال الحرب الأهلية. كذلك تلقَّت صفعة في عقر دارها من جندي إسرائيلي، هذا الكابوس الذي لا ينفك يلاحقها من وطن إلى آخر. المحتلّ الصهيوني الذي سبق له أن اقتحم فردوسها الضائع في القدس العتيقة، عاد لينكِّل بها في منطقة بئر حسن، على مشارف صبرا وشاتيلا. في ذلك اليوم الدامي من عام 1982، سأل الجنود عن فلسطينيين يعيشون في محيط المخيم. دلّهم بعض السكان عليها، فدخلوا منزلها بحثاً عن الإرهابيين. وحين تصدّت لهم، تلقّت صفعة ما زالت تشعر بها إلى اليوم.
في مسيرتها الحافلة، هناك حكايات أكثر طرافة أيضاً، مثل تلك مع «ميليشياوي ظريف»، اختطفها لأنّها رفضت نقله في سيارتها من تقاطع مار مخايل عام 1987. لكنّها، بحنكتها وشجاعتها، حوّلت الجلسة معه إلى حوار أدبي عن شعرائها المفضّلين. هكذا انتشلها بدر شاكر السياب وخليل حاوي وأدونيس من جنون الحرب الأهليّة. طوال تلك السنوات المشحونة بالعنف، حافظت يارد على نشاطها. وناقشت عام 1976 في «الجامعة الأميركية في بيروت» أطروحتها «الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة» (مؤسسة نوفل ـــــ 1992) التي اعتُمدَت مرجعاً في جامعة «السوربون» في فرنسا.

وضعت دراسات مرجعيّة عن جبران وأحمد شوقي وابن الرومي والياس أبو شبكة

خُطِفَت خلال الحرب الأهلية. كذلك تلقَّت صفعة في عقر دارها من جندي إسرائيلي
زاولت التعليم زهاء ثلاثين عاماً في «المدرسة الإنجيلية الفرنسية»، ثم في «الجامعة اللبنانية الأميركية»، وأصدرت كتباً في النقد الأدبي تناولت كل نتاج جبران خليل جبران (دراسة صدرت لمناسبة الاحتفال بمئويته)، وشعراء من مختلف المدارس والعصور كأحمد شوقي، وابن الرومي، والياس أبو شبكة، والشاعر العباسي حمّاد عجرد. كذلك جمعت «في فلك أبي نواس» شعر ثلاثة عباسيين، لم يكن شعرهم مجموعاً في ديوان، وهم أبان بن عبد الحميد اللاحقي (الذي نظم كتاب كليلة ودمنة شعراً)، ووالبة بن الحباب (أستاذ أبي نواس)، وكلثوم بن عمرو العتابي. صدر لها في اللغة الإنكليزية كتاب واحد، تناولت فيه «العلمنة في العالم العربي»، بينما أصدرت «الكاتبات اللبنانيات بيبليوغرافيا ـــــ1850 ـــــ 1950» (دار الساقي ـــــ 2000) بعد انضمامها إلى «تجمع الباحثات اللبنانيات» في أواسط التسعينيات، بالاشتراك مع الباحثة نهى بيومي.
إلى جانب النقد والأبحاث التي درجت على كتابتها على الكمبيوتر، ظلّ للكتابة الإبداعية عندها مساحة على الورق. عند كتابة الرواية، ما زالت يارد تعيش طقوس قلم الحبر والورق. على تلك الأوراق البيضاء سال حبر كثير: من «نقطة الدائرة» إلى «تقاسيم على وتر ضائع»، مروراً بـ«كان الأمس غداً» و«الصدى المخنوق». رغم إصداراتها النقدية الغزيرة، ظلّ الشغف بالكتابة الإبداعية يرافقها طوال مشوارها في عالم الأدب. شغف لم تستثن منه الناشئة: «حاولت في قصصي جذبهم إلى القراءة باللغة العربية، وتعريفهم إلى وطنهم»، تقول. هكذا، اكتشف القراء الصغار منطقة جبيل «في ظل القلعة»، وتجاوزوها إلى دير القمر وصيدا في «بعيداً عن ظلّ القلعة»، وصولاً إلى العاصمة في «أيام بيروت»، ثم إلى البقاع في «سامر».
بعد 82 عاماً، ما زال الحنين يسكنها إلى شوارع القدس العتيقة. ترفض الكاتبة أن يضيع فردوسها مرتين، فتعاند الظروف. الأبناء في أميركا وكندا. رفيق دربها توفّي، والإخوة والأخوات في الخارج. لكنَّ نازك رمت بعيداً عنها فكرة الانتقال إلى بلد جديد.
وهي تغادر المقهى في شارع الحمرا متوجهة نحو برمانا حيث تقطن اليوم، سؤال وحيد يصلح لتوديعها: كيف تتسع حقيبة الظهر الصغيرة لكلّ تلك الحياة؟


5 تواريخ

1928
الولادة في القدس

1945
الالتحاق بـ«جامعة فاروق الأول» (القاهرة) لدراسة الفلسفة

1976
نالت الدكتوراه من «الجامعة الأميركية في بيروت» عن أطروحة «الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة»

1983
أصدرت روايتها الأولى «نقطة الدائرة»

2010
شاركت في تحرير الكتاب الرابع عشر من سلسلة «باحثات» عن «الممارسات الثقافية للشباب العرب»، ويوقَّع عند الرابعة والنصف من بعد ظهر 5 ك1/ ديسمبر في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» (بيال)