مصطفي بسيونيأمام واقعٍ في غاية التعقيد، تصير أبسط الأمور عصيّةً على الفهم. لكنّ بعضهم قادر على فهم تلك العلاقة الشائكة، بين أنّات إنسان بسيط يتألّم، والقضايا الكبرى المرتبطة بمصير وطن... من بين هؤلاء، عايدة سيف الدولة. منذ مطلع التسعينيات، ارتبط اسم هذه الطبيبة اليساريّة بمناهضة التعذيب في مصر، علماً بأنها لم تتعرّض لهذه الوحشيّة السياسيّة لحسن الحظ. منذ بداية نشاطها السياسي في السبعينيات لم تعرف المعتقل، لكنّ نشأتها تركت أثراً كبيراً في توجّهاتها: عشت في كنف أسرة سياسية تعرض أفرادها للسجن والتنكيل من أنظمة مختلفة. أذكر مثلاً الاستعداد لموعد زيارة خالي محمد الجندي في سجن «الوادي الجديد» في الستينيات. لكن يبقى ما تعرّض له عمال الحديد والصلب والمتضامنون معهم في عام 1989 من تعذيب وحشي، الشرارة التي دفعتني مع زملاء آخرين إلى تأسيس «مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب»».
مع طبيبين آخرين، أسست سيف الدولة المركز عام 1993. ومنذ ذلك الحين بدأت معركتها اليوميّة ضدّ نوع من الجريمة أصبح خبزاً يومياً في المجتمع المصري: «ما يميِّز جريمة التعذيب عن أيّ جريمة أخرى، هو أنّها جريمة جبانة، لا يقوم بها مرتكبها إلّا عندما يمتلك السيطرة الكاملة على الضحية. يكون من يتعرّض للتعذيب مقيّداً، ومعصوب العينين، ومحاطاً بعدد من الجلادين، وداخل مكان يخضع بالكامل لسيطرة الأمن، مثل السجن أو قسم الشرطة. أي ليس هناك أي احتمال لدفاعه عن نفسه أو حتى دفاع آخرين عنه»، تخبرنا.
أدى «مركز النديم» دوراً مهماً في فضح جرائم التعذيب وملاحقة مرتكبيها ورعاية ضحاياها. لكنّ أهم ما قام به كان نجاحه في تغيير المفهوم النخبوي عن هذه الجرائم المرتبطة في ذهن كثيرين بالناشطين السياسيين والمعارضين حصراً. «وجدنا فارقاً مهماً بين تعذيب السياسيين وتعذيب الناس العاديين. السياسي على علم مسبق بأن خياراته قد تعرضه للاضطهاد. وعندما يمرّ بتجربة اعتقال، يُنظر إليه كبطل ويحظى بتضامن محيطه. كذلك فإنه قد يكون قادراً في أي لحظة على تبديل خياراته بما قد يجنّبه المزيد من الاضطهاد. أما الشخص العادي، فيمثل التعذيب بالنسبة إليه صدمةً غير متوقعة، ولا يكون لديه خيار في إيقافه، كذلك يجد نفسه منبوذاً، ولا أحد يصدّق أنّه بريء أو مظلوم».
كان لحصول عايدة سيف الدولة على جائزة «هيومن رايتس ووتش» عام 2004 أثراً إيجابياً في عملها. برأيها، كان السبب الرئيسي في منحها الجائزة إتقانها الإنكليزية، ما سهّل تواصلها مع الخارج. تردّد دوماً أنّ جميع زملائها العاملين في «النديم» يستحقون الجائزة أكثر منها. لم تقتنع اليساريّة العتيقة بعد بأهمية دورها في حركة المجتمع المدني المصري. عام 1977، شاركت في انتفاضة الخبز، وتعرَّضت للملاحقة الأمنية، ثمّ انضمّت إلى منظمة «حزب العمال»، إحدى أكثر منظمات اليسار المصري راديكاليّة.
ناضلت في صفوف اليسار حتى مطلع التسعينيات التي شهدت تحلُّل غالبيّة منظمات اليسار الثوري، واتجهت في تلك المرحلة إلى العمل في منظمات المجتمع المدني، وتأسيس «مركز النديم». لكنّها تختلف عن أغلب من أقدموا على التحول نفسه، فهي لا تعدّ العمل الحقوقي بديلاً من النضال السياسي. «المجتمع المدني عاجز عن تحقيق تغيير جذري في المجتمع، وخصوصاً في الميدان الحقوقي. لم تستطع الأنشطة الحقوقية في مصر مثلاً تنظيم فئات شعبية في روابط ونقابات واتحادات للدفاع عن حقوقها ومصالحها، لأن الحركة الحقوقية غير مسيّسة». بهذا المنطق نفسه تقارب عايدة سيف الدولة ترشحها عام 2010 لمنصب مُقرِّر الأمم المتحدة لمواجهة التعذيب في العالم. ترى في حصولها على المركز الثاني في تلك الانتخابات تكريماً كبيراً للدور الذي أدّاه «مركز النديم»، ومناسبة ليكسب سمعة واسعة النطاق، ما سيمكّنه من تفعيل دوره بنحو أكبر. «قبل علمي بترشيحي لهذا المنصب، فكرت في أن منصباً مماثلاً كان سيمنعني من ممارسة أي عمل سياسي أو اتخاذ موقف. كذلك فإن هذا المنصب سيكون عبئاً على عملي ونشاطي في مصر، لأنه منصب دولي يستدعي مهمات والتزامات كثيرة».
تسير عايدة سيف الدولة في طريقها، مناضلةً ضد التعذيب، عبر آليات المجتمع المدني في مصر. لكنها ترى بوضوح حدود ما يستطيع المجتمع المدني تحقيقه. لهذا، لا تنسى الخيارات السياسيّة الأساسيّة التي تحركها. لقد مرّت هذه المناضلة بمراحل متنوعة في الحركة السياسية المصرية. بعضها شهد صعوداً مثل السبعينيات، وبعضها شهد تخبّطاً وركوداً مثل التسعينيات: «شاركتُ في الحركة الطلابية في السبعينيات، وكانت حركة قوية. لم يكن الأمن يسيطر على الجامعة كما هي الحال الآن، ولم تتخذ الحركة الطابع الديني الموجود حالياً. كانت مساحة العمل الطلابي في الجامعة أوسع بكثير»، لكنّها تحتفظ بحماستها وتفاؤلها، وترى أن ما تشهده مصر من صعود في النضال الاجتماعي والسياسي اليوم يختلف عمّا شهدته في أي مرحلة سابقة. «هذا الغليان الشعبي لم يشهده الواقع المصري من قبل. عمال، وطلاب، وفلاحون، ينظّمون إضرابات وتظاهرات يومية. هذا المستوى من التحدي لرموز السلطة لم يكن موجوداً في أيّ وقت سابق. جميع الملفات أصبحت مفتوحةً دفعةً واحدة، والنظام لا يقدّم إلا مسكّنات يزول أثرها قبل أن يبدأ. الأوضاع لم تعد محمولة، والفئات التي لم تتحرك في أي وقت سابق كالموظفين أصبحت في طليعة النضال». بعد ثلاثة عقود عاشتها مناضلة وشهدت خلالها بناء آمال عظيمة وإحباطات كثيرة، بقيت عايدة سيف الدولة ترى مبرراً واحداً للاستمرار: الأمل بالتغيير السياسي، والوفاء للقيم الاشتراكيّة التي آمنت بها في شبابها الأوّل.


5 تواريخ

1954
الولادة في القاهرة

1977
انضمت إلى «حزب العمال الشيوعي»، وفي العام التالي تخرّجت في كليّة الطب في «جامعة عين شمس»

1993
شاركت في تأسيس «مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب»

2004
حصلت على جائزة «هيومن رايتس ووتش» تقديراً لجهدها في مناهضة التعذيب في مصر

2010
ترشّحت لمنصب مقرّر الأمم المتحدة لقضايا التعذيب