كلما كبر الاستقلال عاماً، «ناصت» ذكراه. فبعد 67 عاماً من «تحرّر» لبنان الكبير من الانتداب الفرنسي، تبدو ذكرى هذا التحرير نائية، بعدما بات الانتداب «انتدابات»
راجانا حمية
بالكاد كانت شمس الصباح ترمي بضوئها على الشارع النائم. كان الهدوء أقوى من كل شيء، لا يعكّره إلا وطء أقدام العابرين القليلين، و«طرطقة» الأبواب الحديدية للمحال التجارية. وحده كان هناك قبل «طلوع الضو» يزرع الزاروب الضيق جيئة وذهاباً، بانتظار زبائن محتملين. لم يكن قد «استفتح بعد»، حين استفتحته الشابة بسؤالها «الخارج من التاريخ» ـــــ كما يقول ـــــ عمّا يعني له عيد الاستقلال، بصفته مواطناً لبنانياً.
يبتسم علي حسّون للسؤال طويلاً، وبين «الضحكة» و«الضحكة» يتأمل العابرين أمامه، من دون أن ينبس ببنت شفة. تتغير ملامح الوجه فجأة. تهدأ. ويقف الرجل وقفة الخطيب ويبدأ حديثاً لم يكن بادياً أنه سينتهي سريعاً. لديه الكثير ليقوله عن حدث «لم يبق منه إلا مجموعة ذكريات». قبل الاستفاضة بالحديث، يلخّص رأيه، فيسأل «معقول بعد في استقلال؟ بعدنا عايشين على ذكرى صار إلها 67 سنة».
يعطي الرجل سلسلة تبريرات لخلاصته. يقسمها إلى ثلاثة: سياسي ومعيشي وأمني. في الجزء الأول، يقارن الرجل بين محتل الأمس و«محتلي» اليوم. يقول «بالأول، كانت هوية المحتل معروفة. فرنساوي وبريطاني. كنا نقاوم انتداباً، لكن اليوم لا نعرف ما هو عدد المحتلين: سعودي ولّا سوري ولا أميركي ولا إسرائيلي». لم يعد المحتل واحداً الآن. انقلب محتلين. لا إسرائيل وحدها، ولا أية دولة أخرى. كثروا. باتوا «أضعاف ما كانوا عام 1943». في المعيشي، يخاف الرجل من الوصول إلى وقت يصبح «كل همنا السياحة، تاركين الزراعة والصناعة لغيرنا». ويرصف جملة أسئلة «استقلال وبلا شغل؟ وشحادة؟ وغلاء معيشي؟». يورد مثالاً على بطلان الاستقلال اليوم في ظل الواقع المعيشي الصعب، فيقول «تصوري كيلو البطاطا اللبنانية 1500 ليرة، لأن الموسم انضرب، بتنا نشتري كيلو البطاطا السعودية بألفي ليرة، لأننا نشتري معه الضريبة».
ثمة واقع أمني يدفن الاستقلال في ذكراه، وهو الواقع الذي «يفرض علينا التسليم بإمكانية الموت في أيّة لحظة».
لا استقلال على كل المستويات. فأين «هو الاستقلال؟»، يسأل الناس في حضرة الذكرى. الكل موقن أنه مات. حاله تماماً كحال الميت، كلما مرّت عليه السنون تغور ذكراه في النسيان. وهكذا أيضاً كلما مرّ عام عليه، تكبر الفجوة بيننا وبينه، بدلاً من أن يترسخ، ولا تعود مآثره ذات قيمة، وإن حررت في ذلك الوقت أرضاً بكاملها.
67 عاماً على الاستقلال. ما الذي تغير؟ يجيب يوسف ناصر الدين: «أهم شيء بالتغييرات أنه لم يعد هناك دولة حتى تستقل». يهزأ ناصر الدين «من دولة الكل بيخبّص فيها: اسرائيل وسعودية وأميركا من الخارج والأحزاب من الداخل».
على مقربة من «الثائر» على الدولة واستقلالها، يجلس صاحب سيارة الأجرة محمد لطيف القرفصاء بانتظار الزبائن. كان يسترق السمع إلى جاره، فما كاد ينهي الجار عبارته حتى كانت التتمة «عن أي استقلال تتكلمون؟ عن استقلال أتت بعده انتفاضة 58 وحرب 75 وحرب 2006؟». كان صوته يخفت كلما اقترب من الجيران. يكمل الحديث الذي بدأه بعيداً «لا تسألونا عن استقلال صار عام 1943، اسألونا أين هي الأراضي التي استقلّت؟». يكرر السؤال الأساسي: «تسألون ماذا يعني لنا الاستقلال؟»، وقبل أن يجيب أحد يقول: «إيه، ما بيعني شي، على الأقل عام 1943 كان القرار صادراً عن جهة واحدة هي لبنان، الآن أي لبناني عم ياخد قرار من راسه؟ حتى الرئيس».
الكل مجمعون على لا معنى الذكرى. لكن، مع ذلك، تختلف أسباب ذلك. وحتى هوية «المحتل» أو «المحتلين» الجدد، تختلف من منطقة إلى أخرى ومن طائفة إلى أخرى. هكذا، تتحكم الجغرافيا والسياسة بالأسباب. فالمحتل هنا «أميركي» وهناك «سوري». والبعض لا يقول الهوية صراحة، لكن تبدو واضحة مع وضوح الانتماء السياسي للمتحدث. فهنا، التبرير قد يكون «14 آذاري» وهناك قد يكون «8». على خط التماس بين الشياح وحي قصقص، ينعى محمد محمد الاستقلال لأن «الحركشة من الجيران لم تنته، لا الانتداب العسكري انتهى ولا حتى التدخلات السياسية». يكمل الجار عبد اللطيف الكلام «وإلى كل ذلك، كلنا تابعون لفلان وفلان، فلنستقلّ ذاتياً وبعدها نتحدث عن استقلال الوطن».
ثمة الكثير من التغيرات حدثت ما بين عام الاستقلال والعام الجاري. مرّ لبنان بحروب كثيرة داخلية خارجية شتتته، فما عاد المحتل واحداً، ولا حتى اللبنانيون أنفسهم متفقون على صيغة الاستقلال إن كانوا يريدونها حقاً. ففي الأشرفية الشرقية، قد يكون التحرر من «السوري» وحلفائه هو المقدمة للاستقلال، فيما هو عكس ذلك في المكان الآخر من «الغربية».
لكن، مقابل ذلك، ثمة من لا يولي الاستقلال أدنى اهتمام، لأنه ببساطة لا يعرف عن الذكرى «إلا ما ورد في كتاب التاريخ، وما الذي يدرينا أن ما وُثّق هو فعلاً دقيق، فلكل حقبة رواتها»، يقول الشاب جوزف الحاج. يشكّك الحاج بكتابة التاريخ لأن «ما أتى بعد الاستقلال برهن أن ما قيل عن المحبة والوحدة والقرار الحرّ كان باطلاً».

«عن أي استقلال تتكلمون؟ عن استقلال أتت بعده انتفاضة 58 وحرب 75 وحرب 2006؟

والحل؟ يقول الحاج إن «الاستقلال يبدأ من أنفسنا ومن تعزيز مقومات الوطن، والأهم من ذلك أن يشعر كل واحد منا بأنه مواطن لا تابع». باختصار «الانتماء للوطن لا للزعيم».
نظرة خاطفة على طرقات الوطن لا تبرز أي انتماء له، فصور الزعماء والشهداء «فدى الزعيم» تزاحم الأحياء على يومياتهم. «لا انتماء أقله إلى الآن»، تقول الشابة مايا فاكيه. تؤمن مايا، اللبنانية طبعاً، بـ«أننا لا نملك من الاستقلال إلا الذكرى». أما ديالا رفول، فلا تملك من الاستقلال إلا أنه يوم «فاكانس» أي عطلة. مردفة «دوماج» (للأسف) «إنه نحس أن هذا اليوم مجرّد «دات» (تاريخ)».
هكذا بات الإحساس بالاستقلال مجرد تاريخ في روزنامة عتيقة. لكن، كل هذا التشاؤم لا يمنع من الإيمان ولو ليوم واحد بأن «الاستقلال حدث جميل»، تقول مريم عياش. تفرح الشابة لأن هذا العيد هو «الوحيد الذي نحتفل به وحدنا، ما حدا خصّو فيه». تشرح أكثر، فتقول «هي المرة الوحيدة التي كان فيها اللبنانيون قادرين على اتخاذ قراراتهم من دون حاجة إلى المساعدة». ثمة آخر يرى أن الاستقلال لم ينته، فقد عادت ملامح الحرية منذ «انتفاضة الاستقلال في عام 2005»، يقول أيمن أبو شقرا. يقارن الشاب بين البداية في عام 1943 «حين تأسست فكرة الحرية والقرار الحر والتضحية»، واليوم «الذي بدأت تتبلور فيه هذه الأفكار». وبما أنه «ما حدا إلا وما غنّى موّاله في هذا البلد، فليعودوا إلى موال الوطن»، يختم الشاب. هو سؤال حقيقي، لكنه سيبقى عالقاً، بانتظار الإجابة عن سؤال آخر: متى يعودون؟


نصب سعيد فخر الدين قبل العيد المقبل

مرّت الذكرى الـ67 للاستقلال في ظل مراوحة لبنان الرسمي بعدم الاعتراف بشهيد الاستقلال الوحيد سعيد فخر الدين، بصفته احد رجالات الاستقلال.
وفيما جال ممثلون عن الرؤساء الثلاثة على أضرحة 15 من رجالات الاستقلال، آخرهم الرئيس رفيق الحريري، وعد رئيس الجمهورية ميشال سليمان بايفاد ممثل شخصي عنه اليوم لوضع أكليل في مكان إقامة النصب التذكاري لفخر الدين. وهو تقليد سنوي اتبعه الرئيس إميل لحود من دون أن يُكرّس قانونياً في مراسيم تكريم رجالات الاستقلال. وقد أكد جمال عمّار، رئيس بلدية عين عنوب، مسقط رأس فخر الدين أن «المجلس البلدي كلف الفنان منير مزهر تصميم تمثال لفخر الدين، وكان من المتوقع أن ينجز قبل شهر حزيران الماضي، لكن وفاة مزهر أعاق التنفيذ ونحن الآن بصدد البحث عن مصمم جديد». بدوره، أكد عمدة الإعلام في الحزب السوري القومي الاجتماعي معن حمية أن «الحزب سيسعى من أجل أن يصدر مجلس الوزراء مرسوم يسمي فخر الدين واحداً من رجالات الاستقلال».