في الضواحي، حيث يشتد تلاصق الأبنية حد التوأمة، وتضيق الشوارع بأهلها، تصدح ذبذبات خفية، من فوق السطوح، وفي أحشاء الزواريب. هكذا، تمتد «شبكات» الاتصال اللاسلكي، على مسافة واسعة، تتخطى العاصمة بكثير
أحمد محسن
على السطح، حيث تستريح حمامتان، وكشّاش السرب كله، يتسرب الصوت خافتاً عبر جهاز اللاسلكي: «أبو النور أبو النور». يتكرر الصوت الموتّر ثلاث مرات بوتيرة تزداد تذمراً. تأتي الإجابة: «أبو النور عالسمع». تمر دقيقة ويعاود المنادي استغاثته: «الحكيم عامل مشكل». وتختلط النداءات. «أبو النور» لم يعد وحيداً. يدخل سيل من الشبان على الموجة. بعضهم يأخذ على عاتقه تأمين الحشد اللازم لنصرة «الحكيم». المنادي الأساسي، كما تقول الذبذبات المرسلة، نزل إلى الأرض «كي يجمع الشباب». وفي غضون دقائق يعج الشارع بالمتصارعين. يندفع الجميع إلى حي ضيق في برج البراجنة. وضعت «الاتصالات» أوزارها. وبدأت المواجهة. وفي المساء، بعد «تقطيب» الخلافات و«معاينة» الأضرار، يناقش ما تيسّر من «أهل الحي» الحادثة بالطريقة اللاسلكية ذاتها. عشرات الشباب ـــــ في الحيّ الواحد ـــــ يتواصلون هكذا. وعوضاً عن شبكة الاتصال الواحدة، هناك عشرات الشبكات. وعوضاً عن الحيّ الواحد، هناك عشرات الأحياء. يكفي أن تفتح جهاز اتصال لاسلكي وتبحث عن موجة.
لن يحتاج الأمر إلى أكثر من «مركزية» وجهاز لاسلكي. والمقصود بالمركزية، هو جهاز البث الأساسي، الذي يمكن شراؤه من كثير من المحال المتخصصة. في أحد هذه المحال، لم يسمع البائع بقانون للاتصالات في حياته. «دولة؟ أيّا دولة؟ شو مفكّر حالك بفرنسا؟» يضحك، رغم أن النكتة عادية. أضعف آلاته تستطيع تغطية منطقة المطار ومحيطه. سقى الله أيام الاتصالات والمطار. واللافت، أن الآلة نفسها، تستطيع في الجبل التقاط الموجات من الضاحية، نظراً إلى ارتفاع المكان عن سطح البحر. وللمناسبة، يتذكر أصحاب هذا الهوس مشادات شهيرة حصلت بين «لاسلكيي» الضاحية، ونظرائهم في الجبل، خلال أحداث السابع من أيّار الشهيرة. مشادات يتذكرها «أشاوس» اللاسلكي جيداً.
أما من الناحية التقنية الصرفة، فالشبكات، كالهواتف النقالة «موضة وتفشيخ». القانون لا يحاسب على «التشبيح»، لكن الاتصال اللاسلكي غير شرعي إطلاقاً. فقد لفت المدير العام لقوى الأمن الداخلي، أشرف ريفي، في حديث مع «الأخبار»، إلى أن أي اتصال لاسلكي، يحتاج إلى رخصة من وزارة الاتصالات، ومن وزارة الدفاع (من استخبارات الجيش تحديداً). وأشار ريفي إلى أن القوى الأمنية كانت ستلاحق مستخدمي هذه الوسائل بطريقة غير قانونية «لو كان الوضع طبيعياً»، إلا أن الأوضاع السياسية الحالية «معقّدة».
وعلى عكس ما يقوله ريفي، يبدو الوضع طبيعياً في المحال المختصة ببيع الأجهزة اللاسلكية. يؤكد صاحب المحل عينه، أن ثمة «مهووسين» يتسابقون على الموجات، وعلى حجز أكبر المسافات الممكنة. البائع، الغارق في كومة من الخردة، سعيد بالتهافت الحاصل على بضاعته، لكن «حجز الموجة» خارج مسؤولياته؛ فحجز الموجة حكاية وحده. للوهلة الأولى، يبدو الجهاز اللاسلكي معقّداً. لكن، يكفي الوصول إلى زر «المسح» الذي يكشف الترددات المتوافرة في المحيط والالتحاق بها. حسن كمال، المصاب بهوس اللاسلكي، يشرح عملية الحجز تفصيلياً. يختار موجة (ترمّز الموجات تحت مصنفات 13، 14،15،16). في بداية الحجز، وبعد تثبيت الهوائي على السطح والجهاز المركزي، يختار المستخدم مكاناً على الشبكة (15.300 مثلاً)، ويضغط على زر الاتصال «بيدال». ويبقي الخط مفتوحاً، كي تبقى الموجة مستخدَمة وييأس الآخرون من دخولها. بعد ذلك، تصبح موجته عرفاً. ومن الأعراف الشهيرة للتخلص من «المتطفلين» استعمال كلمة «Break» للطب من أحد «الدخلاء» على الموجة الخروج... بالتي هي أحسن.
لكن ذلك المجتمع ليس ودوداً دائماً. تحصل خلافات في كثير من الأحيان نتيجة دخول «المتطفلين». وطردهم مستحيل تقنياً. ولذلك، لا بديل عن الشتائم المتبادلة. تستمر هذه النقاشات الحماسية حتى الفجر أحياناً. يمكن تحديد مدى جغرافي معين يحدد بواسطة إشارة الإرسال الموجودة أعلى جهاز اللاسلكي، على غرار الهاتف المحمول. هكذا، يستطيع الطرفان المتنازعان تحديد قرب أحدهما من الآخر، من دون إحداثيات عملية. الإحداثيات الوحيدة في النقاش هي الشتائم. ومثال على ذلك، يروي أحد الشبان حادثة جرت خلال حرب تموز، دخلت فيها «فتاة قواتية من الجبل على موجة الاتصالات اللاسلكية الخاصة بالمقاومة». حاولت التواصل معهم لكن الظرف «لم يسمح بتحمل دمها الثقيل»، مما اضطرهم إلى «الخروج على الأدبيات المعتادة»، لطردها من الموجة، وفعلاً جرى ذلك.
الظاهرة، في الضواحي تحديداً، تخطت العامل الأمني المألوف. «النواصي» تحتاج إلى مقومات الصمود. واللاسلكي مجرد وسيلة «لصرف الملل» مستقاة من «طقس» ميليشياوي قديم. فهناك، قد يستخدم للتواصل مع «الحبيبة» أو «الزوجة»، وبطبيعة الحال من أجل «التشبيح»، أو «الأمن». الأمن على الطريقة اللبنانية طبعاً. وبالنسبة إلى التشبيح، يروي أحد المتابعين في الضاحية أنّ محالّ بيع اللاسلكي في المنطقة عاشت فترة انتعاش، خلال الفترة التي سبقت أحد المهرجانات السياسية، لكن معظم هذه الأجهزة بيعت بهد انتهاء المهرجان. فقد انتهى «التشبيح».