محمد شعير
حياة المستعرب الفرنسي ريشار جاكمون أشبه بـ«فيلم عربي»، هكذا يصفها. فيها المغامرة والمقامرة والرهانات الصعبة. لم يتوقع أن يكون الأدب العربي عمله. كان يخطط لكي يصبح صحافياً يجوب العالم. لكنّ «الثقافة العربية» خطفته. درس الحقوق في البداية، ثم الفلسفة وعلم الاجتماع، لكنّه لم يجد نفسه، فقرر أن يجوب العالم. فى أوائل الثمانينيات، حمل حقيبته، وألفي دولار، واصطحب صديقته في رحلة إلى أميركا الجنوبية. وعندما نفد المبلغ عادا، بعدما قضيا 9 أشهر متنقّلين بين البيرو والمكسيك ونيكاراغوا والإكوادور، وعشرات الدول التي تتحدث الإسبانية. وعندما انتهت الرحلة، كان قد أجاد «الإسبانية» إجادة تامة.
أعجبته اللعبة. عندما عاد إلى فرنسا، اتفق مع صديقته على رحلة مماثلة عبر المتوسط بين دول المنطقة العربية. ومن هنا، قرر أن يدرس العربية حتى يستطيع التفاهم مع أهل المنطقة.
على طريقة أرخميدس، صاح منذ الدرس الأول «وجدتها.. وجدتها». اكتشف بعد كل سنوات الدراسة أنّ رغبته الحقيقية هي تعلّم لغة «بعيدة عنه» كما يقول... وكانت العربية. هكذا، حصل على منحة لدراسة العربية تسعة أشهر في معهد لتعليم اللغة للفرنسيين في القاهرة. قبل أن يبدأ رحلته القاهرية التي لم تنتهِ حتى الآن، قدّم أوراقه إلى معهد خاص لدراسة الصحافة، وطلب إرجاء بدء دراسته لمدة عام بعد أن ينتهي من «منحته القاهرية» فوافقوا. الصحافة هي المهنة الوحيدة التي «تتيح لي التنقل بحرية حول العالم». وصل إلى القاهرة في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 1983. يتذكر هذا التاريخ جيداً. وصوله من المطار إلى ميدان رمسيس أصابه بصدمة حضارية! لم يكن يتوقع ذلك الازدحام، لكنّه سرعان ما تجاوز صدمته، وأصبح يدرّس العربية صباحاً، وفي المساء يتنقل في «مثلث الرعب» في وسط القاهرة، حيث مقهى «زهرة البستان» و«الأتيليه». هناك، كان يلتقي بفنانين ومثقفين، فتحولت علاقته من مجرد دراسة اللغة إلى «الأدب». ذلك العام، قرر معهد العالم العربي تمويل ترجمة 12 كتاباً عربياً إلى الفرنسية، وكان من بين العناوين المختارة رواية «دوائر عدم الإمكان» لمجيد طوبيا الذي طلب من أستاذة ريشار أن تترجمها. لكنها اعتذرت مرشّحةً ريشار بدلاً منها. وقتها كان يعمل مترجماً حرّاً في «السيداج» (مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية). في تلك الأيام، لم يكن للأدب العربي حضور حقيقي في الغرب. أربعة أو خمسة كتب فقط تُرجمت إلى الفرنسية، ثلاثة منها لنجيب محفوظ. لكن الاهتمام الحقيقي بالأدب العربي بدأ مع إطلاق هذه السلسلة، ومع حصول «عميد الرواية العربية» على جائزة «نوبل». يوضح ريشار: «الجائزة أفادت محفوظ شخصياً. لكننا لا نستطيع أن نقول إنّها أفادت كتّاباً عرباً آخرين. ما يحدث هو العكس. عندما يرتبط اسم كاتب ببلد معين، فإنّ نجوميته تطغى على الكتّاب الآخرين».
ما هي إذاً العوامل التي أفادت الأدب العربي؟ يجيب: «بعد نكسة 1967، صار هناك اهتمام عالمي بالقضية الفلسطينية، وخصوصاً في دوائر حركات اليسار. وأنا كنت أشاهد وأسمع أغنيات الشيخ إمام قبل أن يكون لي اهتمام بالعالم العربي، من خلال أصدقاء من اليسار الفرنسي». العامل الثاني، حسب ريشار، «وجود جاليات عربية في السبعينيات والثمانينيات عُدّت جسراً بين الثقافتين». مع ذلك، لم يكن هناك اهتمام حقيقي بالأدب العربي من قبل المستشرقين. كانوا يرون أنّ «الأدب العربي الحديث لا يستحق الاهتمام».
هل تحبّ أن توصف بالمستشرق أم بالمستعرب؟ يضحك قائلاً: «الاستشراق في الثقافة العربية أقرب إلى التهمة منه إلى الوصف. أنا لا أعرف من اللغات الشرقية سوى العربية. لا أعرف الفارسية أو التركية. لذا أفضّل دائماً كلمة مستعرب». كتاب إدوارد سعيد الشهير «الاستشراق» كان في منتهى الأهمية، رؤيته لا تزال صالحة، لكن هذا لا يعني بحسب ريشار «أنّها فوق النقد. كذلك وُظّف الكتاب توظيفاً سياسياً».
هل تخشى أن تتهم بأنك مستشرق عندما تقرأ أنّ لديك أجندة سياسية تنفّذها في المنطقة؟ يجيب سريعاً «هذه أضحوكة. هناك علماء سياسة واجتماع واقتصاد يقومون بأبحاثهم، ويشتكون من أنّ دولهم لا تأخذ بأفكارهم لأنّها تتناقض مع الأجندة السياسية لهذه الحكومات. وخير مثال أنّ كل الباحثين الذين اشتغلوا على فلسطين كتبوا ضد عزل «حماس»، وطلبوا من الحكومات التفاوض مع هذه الحركة باعتبارها حركة وطنية، لكن لا أحد يسمع». عندما صار جاكمون مديراً لمركز الترجمة في «السيداج»، حوّل المركز إلى خلية عمل. أسهم في ترجمة 100 كتاب إلى العربية، وترجم عدداً من الأعمال لتعريف الفرنسيين بالثقافة العربية. يضحك: «كانت هذه أجندتي السياسية الحقيقية لا المزعومة». ماذا عن وضع الأدب العربي في فرنسا الآن؟ يجيب فوراً: «إنّه مهمّش. يقرأ كنتاج عرب لا باعتباره أدباً. محمود درويش ظل يكافح من أجل أن يُقرأ كشاعر، لا كفلسطيني فقط، لكنّه لم ينجح».
في محاضرته التي يلقيها اليوم في الجامعة الأميركية في القاهرة، يتحدث ريشار عن سياسات الترجمة في العالم العربي: «ثمة حلم يجمع بين جزء من النخبة العربية وبعض الدبلوماسيين الغربيين، بأنّ الثقافة العربية لم تترجم بعض أساسيات المعرفة العالمية. وعلينا، سواء كنخب عربية أو كساسة غربيين أن نترجم كل ما هو مهم، لأنّ المستعمَر (بفتح الميم) لا بد من أن يكون نسخة من المستعمِر (بكسرها)، وكي تتطابق الصورة، يجب ترجمة كل ما يصدر هناك. هذه فكرة استعمارية» يقول جاكمون مضيفاً: «الفكرة تدل على أن العقل العربي ما زال مستعمراً». الفكرة الثانية هي ظاهرة تزايد ترجمة الكتب الدينية إلى الفرنسية لتلبية احتياجات الجاليات العربية المسلمة هناك.
لم يندم جاكمون على اختياره الأدب العربي، ولا على عدم العمل في الصحافة. ندمه الوحيد أنّ «هذا الفيلم العربي حرمه من أن يرى بقية العالم والتصعلك فيه»، كما كان يرغب في شبابه!


5 تواريخ

1958
الولادة في سانت إتيان (جنوب شرق فرنسا)

1983
زيارته الأولى إلى القاهرة

1985
صدرت أولى ترجماته إلى الفرنسية لرواية «دوائر عدم الإمكان» لمجيد طوبيا

1999
الدكتوراه عن أطروحته «الحقل الأدبي المصري»

2010
يستعدّ لإصدار كتابه «ترجمة»، وانتهى
من ترجمة رواية «العمامة والقبعة» لصنع الله إبراهيم. ويلقي اليوم محاضرة في الجامعة الأميركية في القاهرة بعنوان «سياسات الترجمة في العالم العربي»