كثر الحديث بعد الحرائق التي فحّمت غاباتنا في عز كانون الأول، عن الخطط والاستراتيجيات التي لا يزال يفتقدها لبنان في مجال مكافحة الحرائق. من رئيس الجمهورية الى الوزراء والنواب، بعد الكارثة يجري دائماً تقاذف المسؤولية تحت شعار أن السياسة وانقساماتها تشغلنا عن الاهتمام بقضايا الناس وهمومهم
بسام القنطار
مؤسفاً كان مشهد لبنان أمس. 120 حريقاً اندلعت في مختلف أطرافه، وكادت تتسبب، إلى الكارثة الرئيسية بكوارث «جانبية» عبر تهديدها لمحطات الكهرباء والوقود في المناطق التي اشتعلت فيها. مؤسفاً كان مشهد لبنان الرسمي أيضاً، بكل تلك الجهات التي تتحدث عن الخطط متجاهلة مبادئ الحماية والمراقبة لمنع الحرائق ومعالجتها في مهدها، والتي نصت عليها الاستراتيجية الوطنية لإدارة حرائق الغابات في لبنان. نعم هناك استراتيجية وطنية وقد أقرها مجلس الوزراء عام 2009، لكنها لا تزال تقبع في أدراج وحدة إدارة الكوارث التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، من دون أن تجد طريقها الفعلي الى التنفيذ. هذه الاستراتيجية التي استفاق عليها «المجلس الوزاري المصغر» أمس، تتمحور حول 5 نقاط أساسية تتعلق بتطوير قسم المعلومات والأبحاث المتعلقة بإدارة الحرائق والغابات، وكيفية الوقاية من هذه الحرائق والاستعداد بنحو سليم لمكافحتها، إضافة إلى زيادة الفاعلية في عمليات التدخل لإخماد الحرائق، وإعادة تأهيل ما قضت وما يمكن أن تقضي عليه في المستقبل. من دون البدء بتطبيق هذه الاستراتيجية، لن تتوفر رؤية واضحة وشاملة للحاجات والإمكانات على صعيد المؤسسات والإدارات وعلى صعيد المجالس البلدية التي تعدّ شريكاً أساسياً في إدارة هذا الملف.
هذا لا يعني أن الحكومات المتعاقبة والجهات المانحة لم تهتمّ بهذا الملف، بل إن ما يزيد على 30 مليون دولار أنفقت قدمتها كل من إيطاليا وألمانيا وإسبانيا ومنظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وإدارة مكافحة الحرائق الأميركية والاتحاد الأوروبي وكذلك صندوق النهوض اللبناني الذي انبثق من مؤتمر استوكهولم، وتبرعات تقدم بها أفراد وشركات لبنانية. ولقد أنفقت هذه الأموال على شراء الطوافات والمعدّات والتدريب والتحريج عبر وزارات البيئة والداخلية والدفاع والزراعة وجمعية حماية الثروة الحرجية والتنمية، من دون أن تُلحظ المحاور التي حددتها الاستراتيجية الوطنية والتي يجب أن تكون مترابطة من أجل الحد من كوارث الحرائق وخصوصاً الكبرى منها.
وزير البيئة محمد رحال وصف الحرائق التي اجتاحت أحراج لبنان بـ«الكارثة البيئية والسياحية والاقتصادية» ودعا «الوزارات الى التفكير في تصوّر معيّن لأن ما جرى مسؤولية الدولة مجتمعة»، لافتاً «الى نقص في كوادر الدفاع المدني الذي يحتاج الى نفضة على مستوى العدة والعتاد». وقال: «أوافق وزير الداخلية زياد بارود لجهة افتعال الحرائق وآمل كشف الأشخاص الذين يفتعلونها واتخاذ إجراءات قاسية بحقهم».
هذا في السياسة وأداء الدولة، أما في الوقائع، فبدل أن تفوح رائحة تراب بلدة فتري (جوانا عازار) بعد تساقط المطر عليها، لا تزال رائحة الرماد تنبعث من جوف الأرض. فالبلدة التي لم تنم ليل الأحد، استفاقت على أمطار أنهت «رسميّاً» الحريق الذي استعر فيها طوال «الأسبوع الأسود» الفائت. والمشهد صباح الاثنين يلخّص على النحو الآتي: «نصف حريق ونصف غريق» فيما الحزن يخيّم «جوّاً وأرضاً».
لم يبق من أشجار الصنوبر والسنديان المعمّرة في فتري سوى هياكل سوداء تشهد على هدوء ما بعد الكارثة. آليّات الدفاع المدني انصرفت فجر الاثنين آذنة للمطر بوضع اللمسات الأخيرة على الحريق الذي ولّد الذعر في صفوف أبناء البلدة.
«ويلات مش بالعقل صارت بهالأسبوع» قالت ابنة البلدة نهاد قندلفت التي تركت وعائلتها منزلهم ظهر الأحد تخوّفاً من وصول النيران إليهم. وها هي عادت الاثنين الى المنزل ولم تتوقّف عن الإجابة على اتّصالات المطمئنّين إليها وإلى عائلتها. «يا محلى القذايف عالنار صرنا نقول»، تضيف قندلفت، مشيرة الى أنّها أقفلت أبواب المنزل ونوافذه بإحكام قبل التوجّه الى منزل شقيقتها في بير الهيت ومنه الى منزل ابنتها في بلدة الحصون. أمّا رودولف الدكّاش (14 سنة) فيبدي فرحه بعودة الهدوء، وهو الذي حوصر في الحريق وأضاعه أهله يوم الأحد، عاش لحظات صعبة «فالنيران كانت شديدة القوّة وقد حاصرت المنازل». رئيس البلديّة عماد ضوّ أشار الى أنّ «المشكلة الأكبر اليوم تتمثّل في انهيارات الصخور على الطريق العامّة الوحيدة في البلدة»، مطالباً المعنيّين إقامة ورشة عمل منظّمة لتنظيف المنحدرات من الصخور ومن الأشجار اليابسة واستحداث طرق ولو زراعيّة في فتري، إضافة الى برك مياه، في أسرع وقت ممكن. ضوّ أشار الى إمكانيّات البلديّة الضئيلة مطالباً بإعطائها مخصّصاتها البلديّة، وبتجهيز منطقة الوسط في جرد جبيل بمركز للدفاع المدنيّ، متحدّثاً عن وادي نهر ابراهيم الأثريّ واصفاً إيّاه بالوادي الأسود. «المشكلة بدأت الآن» يقول ضوّ، خصوصاً أنّ المواطنين مهدّدون في كلّ دقيقة بسبب انهيارات الصخور.
وأمس انقذت الطبيعة نفسها والناس، أكان ذلك نتيجة صلاة الاستسقاء أم جراء عوامل مناخية، لكن المهم أن «المطر» وصل بعد طول انتظار، والمزارعين تنفسوا الصعداء، وأوقفوا مضخات ريهم لزراعة الثوم والبصل في سهل البقاع (اسامة القادري)، ليتسنى لهم بعد «الصحو» مباشرة زراعة القمح والشعير، بعد أن تأخروا في زراعتها قرابة الشهر عن موعدها.
نعمة السماء التي أراحت الأشجار من الحرائق، سرعان ما تحولت الى نقمة على مجاري الأنهار التي ضاقت بالأوساخ والنفايات، وبالمعتدين على الأملاك النهرية، ما سبّب تحوّل الطرقات الرئيسية والفرعية الى مستنقعات، خاصة في الأماكن التي لم تطلها أعمال تنظيف الأقنية المستحدثة لجر مياه الشتاء الى نهر الليطاني، والطرقات التي لم تنته منها ورش وزارة الأشغال بعد.

المشهد في فتري يلخّص بالتالي «نصف حريق ونصف غريق»
وفي عاصمة الشمال (عبد الكافي الصمد) سواء انحبس المطر أو نزل، فأضراره على الناس حاصلة حاصلة. فقد أعاد تساقط الأمطار رسم الابتسامة على وجوه المزارعين بالدرجة الأولى، بعدما كاد الجفاف يقضي على مواسمهم، إضافة إلى المواطنين الذين كانوا قد بدأوا يلمسون بوادر أزمة شح كبير في مياه الشفة. لكن تساقط الأمطار تسبّب بأضرار كبيرة. في شوارع طرابلس، وعلى أوتوستراد المنية ـــــ العبدة، غمرت مياه الأمطار كما في كل «شتوة» الشوارع، ما أدى إلى ارتفاع منسوب المياه وملامستها الأرصفة، فتسببت بازدحام كبير.
وفي زغرتا (فريد بو فرنسيس) تحول نهر نبع رشعين الشهير الى اللون البني نتيجة امتزاج مياهه بالاتربة والوحول. وتحول مدخل زغرتا على طريق المرداشية الى بحيرة كبيرة بعدما طافت مسارب المياه هناك ولم تعد تتسع للكمية الكبيرة للمتساقطات. وسببت الأمطار زحمة سير خانقة على الاوتوستراد الرئيس، فيما غطّى الضباب الكثيف المرتفعات الجبلية في اهدن وسط طقس عاصف وممطر، كما غرقت القرى والبلدات الجبلية، ابتداءً من بلدة ايطو، بالضباب، فيما أدّت الأمطار والرياح القوية الى أعطال في خطوط الهاتف وانقطاع التيار الكهربائي عن بعض البلدات الجبلية بفعل تقطع بعض الكابلات الكهربائية.


اجتماع تنسيقي في السرايا

ترأس رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري (الصورة)، أمس، في السرايا الحكومية اجتماعاً تنسيقياً بشأن موضوع إدارة حرائق الغابات، حضره وزير الداخلية زياد بارود، وزير الزراعة حسين الحاج حسن، وزير البيئة محمد رحال، وعدد من المديرين والموظفين المعنيين. جرى خلال الاجتماع استطلاع الوضع العام للحرائق الأخيرة، كما عُرضت الاستراتيجية الوطنية لإدارة حرائق الغابات التي أقرها مجلس الوزراء في أيار 2009، والقانون الذي أُقرّ في مجلس النواب بهذا الخصوص في آذار 2010. وأطلع الرئيس الحريري الحاضرين على قراره الصادر في تاريخ 29/10/2010، والقاضي بإنشاء لجنة وطنية تضم الإدارات المعنية، ومهمّتها وضع خطة وطنية شاملة لإدارة الكوارث، مع خطط فرعية تفصيلية لكل نوع من الكوارث المحتملة، وخطط متوازنة لكل محافظة على حدة. وخلص الاجتماع الى إقرار إصدار المراسيم التطبيقية للقانون 92/2010، كما تقرر عقد اجتماع الخميس المقبل برئاسة الأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع اللواء عدنان مرعب، للبحث في احتياجات الأجهزة المعنية.