أنسي الحاجهل لعبّاس بيضون أشباه في العربيّة؟ أكيداً له مقلّدون ولكنْ ليس له أشباه. فرادته تفيض على لغته، تفيض على شخصه. وأثبت ما في أصالته غرابتها: غرابةٌ طبيعيّة سيّالة في الشاردة والواردة، غرابة عفويّة تلقائيّة كأن تقول طفولةُ طفلٍ أو تَدَحْرُجُ كرةِ ثلج. وأخطر عقدةٍ يمكن أن يعانيها الواحد منّا وتبقى غصّة في حلقه تعوقه وتمتصّه، يذوّبها عبّاس بيضون باندفاقِ براءته وتُحوّلها كيمياؤه المطيعة العجيبة إلى حِلْية، إلى ضوء، إلى انفراج.
نكتب هذا لمناسبة صدور سيرته الذاتيّة (دار الساقي) تحت عنوان «مرايا فرانكنشتاين» وبأحد عشر فصلاً يمكن القارئ غير المنبَّه سلفاً أن يظنّها مجموعة مقالات لأن الكتاب لم يحمل على غلافه إشارة إلى نوعه. وهي على كلّ حال سيرة ذاتيّة جزئيّة لحياةٍ أحفلُ منها بالتجارب، مثلما هي سيرة ذاتيّة مكمّلة أو موازية لمرايا وبَوحيّات شخصيّة كثيرة استودعها الكاتب إمّا قصائده وإمّا قصصه أو مقالاته. فإحدى ميزات هذا الكاتب الاستثنائيّة جَمْعُه الذات والآخر دونما نتوء لهذا ولا لذاك. كأنّه يَحْمله هواءٌ يحمله نهرٌ يحمله بحر...
■ ■ ■
ابتكر عبّاس بيضون لغة ثالثة بين الغنائيّة والواقعيّة هي لغة باردة تُسبّب الاشتعال. ليست لَهَب الجليد تماماً بل جمر النضارة. وغير صحيح أنها ليست غنائيّة بل هي غنائيّة مَن يغنّي وهو نائم. انّها لغته وحده بين الأدباء، وهي لغته أينما حرّك قلمه. وإذا كان عنوان الكتاب دعوة غير مباشرة إلى التعاطف المباشر مع الكاتب عن طريق التضامن الإشفاقي أو مثيله ونقيضه الهزلي، فإن المتن في نتاج بيضون هو غير ذلك، هو ذروةٌ في إحلال الكاميرا محلّ العواطف، ذروة دون مبالغة، حتّى استطاع أن يطوي الحطيئة في هجاء الذات وأن يفوق مازوشيّاً كبيراً كجان بول سارتر في تعرية النفس بلا رحمة وبلا ألغام باطنيّة.
يُمتدح هذا الإمعان لأنه برهانُ صدْق، ولأنه طريقٌ معاكس للسيرة الذاتيّة المألوفة خصوصاً بالعربيّة، حيث الأنا غالباً ضحيّة والآخرون جلّادون. هذا المديح ليس دعوة إلى تهشيم الذات تهشيماً منهجيّاً وإنما تحيّة إلى صلابة الصدق صلابةً تحمل اللئيم المرتاب على تسليم أسلحته.
■ ■ ■
يمكن تلخيص هذه الذكريات بكلمات، كما يستحيل تلخيصها استحالة مطلقة، لأنها تنزلق أمام عينيك انزلاق مَشاهد فيلم سينمائي لا تكاد تلتقط أنفاسك بعد مشهد فيه حتّى يجذبك بمشهد يليه. إنه من الكتب القليلة التي تتمنّى، في ختام مطالعتها، لو لم تنتهِ.
عبّاس بيضون شارلو الذكريات، على شقاء أكثر وتواضع أصدق. ومثل شارلي شابلن في أفلامه الصامتة يبعث الكاتب على الضحك الذي يُقنّع البكاء وعلى رثاء يدعو نفسه هو بنفسه إلى الضحك. بل إلى القهقهة كما يقول عبده وازن في مقال عنه. لا الطفولة سعيدة ولا المراهقة ولا الكهولة ولا السياسة ولا الغربة ولا الوطن. ومع هذا لا سيادة للكآبة في هذه السطور ولا للمرارة: «كنت أستيقظُ في تلك الغرفة التي ننام فيها معاً، أبي وأمّي وأنا وأخي وأختي. كان السقف من ألواحٍ خشبيّة لم تعد متماسكة بما يكفي، ومن وقتٍ لآخر تهبط نسمة خفيفة من التراب الناعم، بسلام، على سريري، وعلى وجهي (...) لطالما تمتّعتُ بهبوطِ سريري وحتّى بتلك النسمة الترابيّة (...) أسوق سريري كما لو كان قارباً وأنتظر هِبَةَ السقف كما لو كان سماء». تتوغّل عدسةُ الذاكرة في جروحها باستقلاليّة تُداني الإعجاز، بموضوعيّة لا يعرف صعوبتها إلّا النرجسيّون. وهذه الكاميرا ممسوكة بيدٍ ثابتة لا رجفةَ فيها، وإذا مِن توتّر فتوتّر الجرّاح الذي لا يظهر توتّره إلّا أحياناً في عينيه مثل بروق. ها هو، في حديثٍ عن الأرق، وبعد أن يسمّيه «نوماً أبيض» يقول: «الأرقُ في الحقيقة نور. نورٌ لا يمكن إطفاؤه وهذه هي المشكلة. يغمض المرء عينيه فلا يستدعي الظلام. يستدعي ضوءاً تحت الأجفان (...) الأرق يؤاخي السهر لكنّه لا يكونه. يحاكي النوم ولكنْ لا يصيره (...) الأرق يؤاخي اليقظة أيضاً لكنّه لا يكونها. إنّه كسْر في اليقظة».
يتكلّم عن كلّ شيء بلغةٍ أخويّة. هذه هي غنائيّته: غنائيّة أخويّة، لليومي والأشياء فيها مقام الكائنات الشقيقة. لا يبغي التسلّط ولا المصادرة، بل يتمنّى صداقة. وبَدَل الصياح والتأوّه نجد هنا سهولاً من الانطباع، خمائل وجداول. سيادةُ الانطباع. انطباعُ الشعورِ والفكر بالتأكيد، ولكنْ أيضاً، وبشكل مذهل، في ما يسمّيه هو «الغفلة الشاملة». كأنْ يكون كل شيء أمامك، من الجدران إلى البحر إلى الصحن إلى الكأس، وتتعامل معه لا كأنه غير كائن بل كأنك أنت غير كائن، أو كأنّكما معاً واحد تحلّق بكما غفلة مشتركة: «لم أظن مرّة أن عليّ أن أحبّ أو أكره ما يحيط بي. كنتُ ألبسه بدون أن أعرف وبدون أن أنتبه (...) كنتُ كمَن يعيش في سحابة ولا أتذكّر الآن حياتي إلّا على أنها نوعٌ من الغيبوبة». غيبوبة تجد تعبيرها في أنصع لغة، كأنه كلامُ النوم تحت مصابيح انقشاعاته. تلفتك أمورٌ كثيرة في هذا الكتاب، بل في آثار هذا الكتاب كلّها، بل وبل في هذا الرجل بأسره. قفلاتُ الفصول، مثلاً: تنفيسٌ لما قد يكون طَبَع الذهن من إخراج مسرحي أو مبالغة. انسحابٌ لطيف. اعتذار. ثم: إغفالُ وضع علامات الاستفهام وراء السؤال أو التعجّب وراء التعجّب. تقشّف غير عربي. كثافة معنى تُقدّم نفسها بلا ضغط، بلا تجميل، بحشمة الفقير الذي يعتذر لأنّه لا يملك أكثر. فقير لا تجد عنده غير العطاء، الكَرَم، المحبّة، يقدّمها كأنها من حواضر البيت. بساطة الخصب. بنقاء وطهارة يستعيد القارئ معهما لؤلؤة طفولته.
■ ■ ■
لا يقول جملة مثل «اللغة أعجز عن أن تكون كل شيء. ما يفوتها أكبر بكثير (...) كيف يمكن لغة أن تكون تاريخنا ما دمنا نعيش معظم حياتنا خارج الكلمات. ألا ننكر أننا في الحقيقة خرس. نتكلم حين لا نشعر ونشعر حين لا نتكلم»، لا يقول مثل هذا الكلام ضدّ اللغة غير الشاعر، مالكها الذي لا يرضيه ما يملكه منها، والذي يعيد اختراعها، كما يفعل عبّاس، لا رغبةً في التميُّز وإنّما لأنّ موازين الطبيعة تريد ذلك، فتعهد إلى الشعراء أن يجدّدوا الكلام كما تعهد إلى المطر أن يغسل الأرض وإلى الربيع أن يوقظ الحياة. لا يرفع الكلفة مع الأركان، واللغة ركن، إلّا بُناتها. الشاعر أبو اللغة واللغة أمّه. لهذا يرفع الكلفة معها. يُعنّفها حين تخذله وتخونه عندما يخذلها.
غير الشعراء لا يتنغّصون من اللغة لأنّ غيرهم يكتفي بتناقل الكلام. ويصدف أن يظلم الشعراء اللغة كما يظلم العاشق محبوبته حين يريدها أكمل ممّا هي. ظلمٌ صرْف، ولكنّه الظلم الكريم الذي بشروطه وثماره فاق خَلْقُ الإنسان حياتَه.
■ ■ ■
إذا اعتبرنا الماضي فردوساً مفقوداً فهذه السيرة الذاتيّة تقول لماضيها: فردوسي هو كتابتي المستخفّة بجحيم الحياة! وإذا نظرنا إلى الماضي كقبر نجونا منه فهذه السيرة تُرسل في وجه الجحيم لعنة مباركة، وتنبش قبرها كطفلٍ ينبش سريره ثم تحطّم هذا القبر باستهتار تجتاحه الطيبة، باستهتار المحروم المتخم، الضاحك في ذقنه ضحكة نصف شيطانيّة نصف ملائكيّة، ضحكة زاهية غريبة وديعة، ضحكة هي ابتسامة القلب، تنبع هي أيضاً من روافد «الغفلة الشاملة»، وترفرف فوق المصير كمسحة غفران.
■ ■ ■
قبل أشهر كان عبّاس بيضون يقطع جسر فؤاد شهاب في نزهته الليليّة عندما صدمته سيّارة مسرعة. تمرجح عبّاس على سرير المستشفى بين موت محتمل وموت أكيد حتّى استسلم عوّاده وربّما أطبّاؤه. حادثٌ من روافد «الغفلة الشاملة». وفجأةً، وفي غفلةِ الطبّ الشاملة، بل في غفلةِ القوانين الطبيعيّة الشاملة، استيقظ المصابُ المهشَّم وعاد.
أعاده انخطافه، تلك الغيمة التي أمضى الوجود عليها. استردّ عافيته وقلمه كأنّ شيئاً لم يكن.
تلك معجزة لا يصدّقها الراشدون، لكنّها تحقّقت. تحقّقت لعبّاس بيضون بنعمة طفولته الدائمة، غير المنتبهة للزمان.
ثقة الأطفال قد تخطئ وتَخيب، لكنّها لا تملّ. وأحياناً تُكافأ.


حوار انتهى

ـــ لماذا وجهكِ ناشف؟
ـــ لأنّي لا أخاف. أنت، لماذا وجهكَ غير ناشف؟
ـــ لأنّي أخاف. لا يتوقّف هاتفك عن الرنين مع أنّ وجهك ناشف.
ـــ وحده وجهي ناشف.
ـــ ألا تحكين إذا لم يتطفّل عليكِ أحد؟
ـــ ولماذا أتطفّل على الكلام؟
ـــ تهوين البَخْع. هل هي وَلْدنة أم خطّة؟
ـــ أنا من بنات المنطق، من اولئك اللواتي هنّ ما يَهْربْنَ منه.
ـــ هل تريدين أن أسكت؟
ـــ إذا أردت...