تتعرّض مؤسسات الدولة اللبنانية لشلل بسبب عجز مجلس الوزراء عن القيام بمهماته الدستورية. وبالتالي، فإن المسألة البديهية الأولى التي يفترض أن تعالج هي أسباب ذلك العجز، وهي لا تختصر، مع الأسف، في خلاف على المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. غير أن ذلك الخلاف يعكس جوهر إحدى المشاكل التي تعاني منها الجمهورية اللبنانية، ألا وهي ضعف السلطة القضائية، عبر تراجع استقلالية القيّمين عليها وكفاءتهم، والتشكيك السائد بين المواطنين في نزاهة عدد كبير من المدّعين العامين والقضاة والضباط العدليين. بداية، لا بدّ من التذكير بأن الدافع الأساسي المعلن للجوء بعض المسؤولين اللبنانيين إلى مجلس الأمن الدولي لإطلاق آلية لتحقيق العدالة في جريمة اغتيال الحريري كان بالتحديد ذلك الضعف الذي تعاني منه السلطة القضائية في لبنان. لذا، فإن إحدى نقاط انطلاق الحلّ المستدام، أي على المدى الطويل، هي إصلاح صادق وجدّي لمؤسسات السلطة القضائية عبر تعديل القوانين التي تهدف إلى تكريس استقلاليتها، وإعادة هيكلة الجسم القضائي، وتحصين هيئات الرقابة والتفتيش، وصرف الأموال لتطوير كفاءة المدّعين العامين والقضاة والضابطة العدلية التي يشرفون على تحقيقاتها.
لكنّ المشكلة الآنية تحتاج إلى معالجة فورية ولو مؤقتة، إلى حين انطلاق الإصلاح الجدّي الذي يتطلّب دون أي شكّ إرادة سياسية جامعة متعذّرة حالياً.
رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان أمام لحظة تاريخية، فإما أن يكون شاهداً على انهيار ما بقي من مؤسسات الدولة ولا يتدخّل بحجّة الحفاظ على موقعه التوافقي، وإما أن يطرح مبادرة من بعبدا تنطلق فوراً، وهذا اقتراح بما يمكن أن تتضمّنه:
بداية، على مبادرة الرئيس أن ترتكز، بكلّ بساطة، على تكريس الاتفاق على الهدف ووجوب البحث في الوسائل المناسبة لتحقيقه. الهدف هو تحقيق العدالة والاقتصاص من قتلة الرئيس رفيق الحريري وآخرين منذ 2004. وقبل تناول الوسائل لا بدّ من التذكير بأن تحقيق الهدف هو حقّ من حقوق الضحايا وذويهم ومحبّيهم لا يختلف عليه أحد. وبالتالي لا بدّ من التركيز أولاً على ضرورة تحقيق ذلك الهدف كي لا يشعر الرئيس سعد الحريري والفريق السياسي التابع له والمتحالف معه بأن الحلّ يتطلّب تراجعهم عن المطالبة بحقوقهم الأساسية. فليدعُ رئيس الجمهورية الأقطاب السياسيين إلى التوقيع على وثيقة اتفاق على ضرورة تحقيق الهدف، وهو كشف الحقيقة (الشعار الأول لقوى 14 آذار عام 2005) والاقتصاص من المجرمين أياً كانوا. ولا يرجّح أن يطرح هذا الجزء من الوثيقة أية مشاكل تذكر.
أما الجزء الثاني منها، فيخصّ البحث في الوسائل، ما يجعله أكثر تعقيداً. ولتقريب وجهات النظر، لا بدّ من عرض الأسباب الموجبة لذلك البحث، إذ إن فريق الحريري قد يدّعي أن الخيار قد حسم لمصلحة المحكمة الدولية وأن البيان الوزاري يؤكد ذلك، وأن هذه المحكمة أنشأها مجلس الأمن الدولي وانطلق عملها فعلياً عبر انتقال الاختصاص القانوني في الجريمة إليها، وبالتالي فلبنان ملزم باعتمادها. لكن على الأسباب الموجبة للبحث في الوسائل المناسبة لتحقيق العدالة أن تتضمّن كذلك توصيفاً واقعياً للوضع القائم في لبنان ولمواقف اللبنانيين المتناقضة، إذ إن هناك جزءاً لا يستهان به من اللبنانيين يشكّك في صدقية المحكمة الدولية كآلية لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة. وعلى الأسباب الموجبة أن تتضمّن توصيفاً لحدّة الانقسام القائم بين اللبنانيين واحتمال انجرار البلاد شيئاً فشيئاً نحو صدام مسلّح وفتنة مذهبية شبيهة بالفتنة المدمّرة بين السنّة والشيعة في العراق. وأخيراً، لا بد أن تتضمّن الأسباب الموجبة تقريراً أمنياً وعسكرياً تضعه قيادة الجيش بناءً على توجيهات الرئيس سليمان يدلّ على حجم الاختراق الاستخباري الإسرائيلي وغير الإسرائيلي في لبنان، ومدى انتشار الأيادي الأجنبية وتأثيرها المحتمل على الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية، وحتى الاجتماعية والثقافية، في لبنان.
إن إقناع سليمان الحريري بالموافقة على توصيف الهدف واعتماد الأسباب الموجبة لضرورة البحث في آلية تحقيق العدالة قد يتطلّب لجوءه إلى استعادة المشاكل التي اعترضت إقرار إنشاء المحكمة الدولية طبقاً لما يقتضيه الدستور، والتوتر الداخلي الذي كان قائماً يومها، والذي عولج في مؤتمر الدوحة الذي أوصل سليمان إلى بعبدا. وعلى سليمان، لكونه رئيساً للجمهورية اللبنانية، أن يركّز على حرص اللبنانيين قبل غيرهم على بلدهم، لأنهم وحدهم من سيدفع الثمن الباهظ إذا انهار ما بقي من الدولة، لا الأجانب ولو كانوا صادقين.
هدية بابا نويل الأولى للبنانيين هذا العام تكون في إقناع الرئيس الحريري بزيارة بعبدا للبحث مع شركائه في الوطن، ومن بينهم الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصر الله والعماد ميشال عون، في آلية العدالة المناسبة والصادقة لكشف جريمة اغتيال والده. وليحضر اجتماعات البحث الأعضاء الحاليون والسابقون لمجلس القضاة الأعلى والمجلس الدستوري ومجلس شورى الدولة، ونقباء المحامين السابقون والحاليون في بيروت وطرابلس، وعمداء كليات الحقوق في الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصّة، ولتؤلّف لجنة قضائية استشارية عليا تضع تصوّراً واضحاً للآلية المناسبة، مع الأخذ بمبادرة إدخال التعديلات على نظام المحكمة الدولية القائمة وقواعد الإجراءات والأدلة ومنهجية التحقيق وإجراءات التوظيف فيها.
إن نجاح الرئيس سليمان في إطلاق هذا البحث يحوّله إلى بابا نويل ينتظره المسلمون والمسيحيون لتفويت الفرصة على من يحاول إهداء لبنان رصاصة في الرأس.