جاد شعبان *
يعتقد الكثيرون أن التوترات السياسية في لبنان ليست سوى نتيجة للاستقطاب الطائفي الحاد. المؤسف أن من يتأملون المجتمع اللبناني ينسون إحدى أهم حقائقه: التفاوت الاقتصادي والاجتماعي الذي يسود في هذا المجتمع.
لقد فهمت جميع المجتمعات منذ القدم أن عدم تكافؤ الفرص يغذي التوترات الاجتماعية، وأن التوترات تغذي بدورها الصراعات، بينما تمثل الطبقات الوسطى البيئة الفضلى لنمو التسامح وللتطور.
إلا أن مشكلة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي لا تزال قضية غائبة رسمياً عن حسابات أصحاب القرار في لبنان، إذ لا تكاد تدخل ضمن السياسات المالية التي تتبناها الدولة منذ نشأتها. في المقابل، يشجّع الزعماء من مختلف المجموعات على السلوكيات الفئوية والانقسامات، ويغذون التفاوت الاجتماعي بين المواطنين ليحافظوا على مواقعهم وعلى سيطرتهم.
تدلّ الكثير من المعطيات على حدة التفاوت الاقتصادي في لبنان. وتشير أحدث المعلومات المتوافرة من مسح الأحوال المعيشية الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي اللبنانية أن معدل الإنفاق السنوي للفرد (وهو مؤشر الثروة) بلغ حوالى ثلاثة ملايين ليرة لبنانية عام 2004.
إلا أن تفاوت الثروات على امتداد المحافظات كان فادحاً: فقد اتضح أن المواطن الذين يقطن بيروت ينفق حوالى خمسة ملايين ليرة لبنانية في السنة، بينما لا يتجاوز إنفاق من يعيش في الشمال مليوني ليرة سنوياً. كذلك سجلت محافظات الجنوب والبقاع نسب ثراء لا تتجاوز نصف تلك التي سجلت في بيروت.
وأظهرت هذه الإحصاءات مدى تفاوت القدرة على الإنفاق بين السكان، إذ إن العشرين في المئة الأفقر من اللبنانيين استهلكوا 7% من مجمل قيمة الاستهلاك، بينما كان 43% من مجمل قيمة الاستهلاك من نصيب شريحة العشرين في المئة الأغنى.
وقد اشتد خلال العقود الأخيرة في لبنان تفاوت المدخول بشكل دراماتيكي، مؤدياً إلى تآكل الطبقة الوسطى. فقد انخفضت نسبة الأسر ذات المدخول المتوسط من 60.1% عام 1974 إلى 20% عام 2000 من مجمل الأسر اللبنانية.
ويتفشّى التفاوت أيضاً في قطاعات أخرى من النشاط الاقتصادي. فالمعلومات الرسمية المتوافرة عن توزيع ملكية الأراضي تعود إلى عام 1997، حين أظهر تقرير منظمة الغذاء العالمية أن 20% فقط من المزارعين يملكون أكثر من 70% من الأراضي الزراعية.
وأظهر ذلك التقرير أن لبنان يسجّل أعلى نسب عدم التكافؤ في ملكية الأراضي عالمياً، وهو وضع بقي قائماً خلال السنوات الماضية، وما زال يتحول من سيئ إلى أسوأ.
تشير دراسات التنمية العالمية إلى أن عدم التكافؤ في ملكية الأراضي يؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي. ملكية الأراضي تحكم قدرة الأشخاص على الاستثمار، وعندما تكون هذه الملكية محصورة بطبقة معينة من الأفراد ينخفض معدل الاستثمار، ما ينعكس سلباً على النمو الاقتصادي للبلاد.
ولا يقتصر التفاوت على الأحوال المعيشية وعلى ملكية الأراضي، بل إنه ينتشر أيضاً في قطاعي التجارة والصناعة في شكل احتكارات.
فقد أظهرت المعلومات الواردة في تقرير لوزارة الاقتصاد والتجارة لعام 2003 أن حوالى 36% من قطاعات السوق اللبنانية التي تمثّل 23% من القيمة الكاملة لدورة رأس المال، تخضع لمؤسسة مسيطرة تمتلك حصة في السوق لا تقل عن 40%. كما أظهرت الدراسة أن نصف قطاعات السوق في لبنان، التي تمثل على الأقل 40% من قيمة دورة رأس المال العامة، تتّسم ببنيات احتكارية.
ففي قطاع المنتجات الصناعية، تخطّت حصص الشركات الثلاث الأوائل نسبة 60% من دورة رأس المال الخاصة بالقطاع، فيما اتضح أن شركة واحدة في مجالي التجارة والخدمات تسيطر على إجمالي مبيعات السوق في قطاعات عديدة كقطاع تجارة الغاز السائل.
شكّل هذا التقرير خلفية لوضع مسودة قانون يسوّق لمبدأ التنافس في الاقتصاد اللبناني ويحدّ من عدد الوكالات الحصرية. إلا أن هذا القانون حفظ بأمان في أدراج البرلمان منذ عام 2003.
ويؤدي مزيج التفاوت الاقتصادي والفئوية الطائفية إلى خلق أسوأ أنواع الاستقطابات الاجتماعية. فالاستقطاب هو الوصفة الأمثل للتخلف والتدهور الاجتماعيين. فقد أظهرت البيّنات العالمية ارتباط ارتفاع التفاوت في الدخل أو الأراضي بانخفاض النمو. فكلما ساد التفاوت في المجتمع، قلّت فيه الديموقراطية والحرية المدنية، وتراجعت التنمية البشرية. يرتبط هذا الواقع عادة بوجود نخبة حاكمة تؤثر التصويت لمصلحة السياسات الفئوية على التصويت لمصلحة توفير الخدمات العامة الأساسية (كتعميم التعليم والمواصلات العامة والإنعاش الاجتماعي). ينطبق هذا الوضع بشكل عام على الواقع اللبناني، ليفاقم شروط العيش بالنسبة إلى معظم السكان.
* أستاذ مساعد في مادة الاقتصاد
في الجامعة الأميركية في بيروت