التبليغ على الهاتف والحكم لصقاًنبيل المقدم
ما هو التبليغ العدلي؟ التبليغ العدلي هو «إيصال أمر ما أو واقعة ثابتة إلى علم شخص معيّن على يد أحد الأعوان القضائيين، أو عن طريق البريد برسالة مضمونة مع إشعار بالتوصيل، وذلك لضمان عدم جواز احتجاج المبلغ بجهله لما جرى تبليغه إيّاه».
«ألو. حضرتك فلان؟ معك المعاون فلان من مخفر كذا. بدك تجي لعنا بكرا الساعة عشرة. فيني اعرف شو السبب؟ بكرا بس تجي بتعرف. وانتبه إذا ما جيت بيصدر بحقك بلاغ بحث وتحرّ».
هذا الاتصال يتلقّاه يومياً عشرات المواطنين اللبنانيين الذين توجد بحقهم شكاوى أمام النيابات العامة في قضايا مختلفة، وتحال هذه الشكاوى على المخافر لإجراء التحقيق الأوّلى وإيداع النيابة العامة النتيجة. وعلى ضوء هذه النتيجة يصدر القرار المناسب بحق المشكو منه.
عدد التبليغات العدليه والإداريه يفوق الـ400000 تبليغ سنوياً
يؤكد النائب غسان مخيبر، عضو لجنتي الإدارة والعدل وحقوق الإنسان، في مجلس النواب اللبناني، عدم قانونية التبليغ عبر الهاتف. ويقول إن التبليغات يجب أن تجري وفق المدة 147 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، أي بوثيقة خطيّة يُذكر فيها اسم طالب التبليغ، واسم مأمور التبليغ وعنوانه وتاريخ تكليفه واسم المطلوب تبليغه وعنوانه، ويجب أن يذكر في وثيقة التبليغ الفعل الجرمي موضوع الملاحقة أو التحقيق أو المحاكمة، والنص القانوني الذي يعاقب عليه، والمرجع الواضع يده على الدعوى. وهذه الآلية يجب أن تجري سواء في مرحلة التحقيق الأوّلي أمام الضابطة العدلية، أو في مرحلة انتقال الملف إلى المحاكم الجزائية. ويؤكّد مخيبر حق المشكو منه بالاعتراض أمام المراجع المختصة إذا أُبلغ بغير تلك الآلية القانونية.
ولحل معضلة التبليغات القضائية يقترح النائب مخيبر إنشاء سريّة خاصة للتبليغات، تتمتع بالمهارات المطلوبة، التي تمكّنها من الاستقصاء عن مكان المطلوب تبليغه أينما كان وإيصال التبليغ إليه.
لكن نادراً ما يعترض مدعى عليه على تبليغه بالهاتف، ويرفض المثول أمام الضابطة العدلية للتحقيق معه، يقول مسؤول قضائي لـ«الأخبار». وذلك خوفاً من صدور بلاغ بحث وتحرّ بحقّه أو مذكّرة إحضار. ويعزو المسؤول التمسك بآلية التبليغ عبر الهاتف إلى سببين: الأول أنه لا نصّ واضحاً ينظّم طريقة التحقيق الأوّلى من ناحية، ولضرورات التحقيق من ناحية ثانية. إذ إنه كما يجب النظر إلى حقوق المدعى عليه يجب أيضاً الأخذ بعين الاعتبار حقوق المدّعي، التي قد لا تحتمل الكثير من الانتظار، كما هي الحال في معظم الأحيان.

القاضي «راضي»

التبليغ العدلي ليس من اختصاص قوى الأمن بل من اختصاص دائرة المباشرين في وزارة العدل
وإذا كان إجراء تبليغ المدعى عليه على الهاتف غير جائز قانوناً من جانب الضابطة العدلية، فلماذا يُقبل به، ويُعمل بمندرجاته من جانب النيابات العامة؟ بمعنى آخر، لماذا تقبل النيابات العامة إصدار بلاغ وبحث وتحرّ، أو مذكّرة إحضار بعد أن تفيدها الضابطة العدلية أنه جرى الاتصال بالمدعى عليه على هاتفه ولم يحضر، أو أنه لم يُجب، أو أن هاتفه كان مقفلاً. هذا الأمر يعترض عليه عضو مجلس نقابة المحامين في بيروت، المحامي ماجد فياض، الذي يقول إنه من وجهة نظر القانون، الذي يريد لموادّه أن تطبّق، يفترض أن تجري الاستقصاءات كاملة، وأن لا يُكتفى بالهاتف، وكل اكتفاء بالهاتف لكي يسبّب لاحقاً إصدار بلاغ بحث وتحرّ يكون معناه أن المواد القانونيه لم تطبّق تطبيقاً صحيحاً، وأنه لم يُستنفذ ما يُفترض من إجراءات لكي تجري العملية بطريقة سليمه.
وللهاتف دور آخر في مرحلة التحقيق الأوّلي غير استدعاء المشكو منهم لهذا التحقيق، فهو الوسيلة المستعملة لمخابرة النيابات العامة، وإفادتها بنتائج محاضر التحقيقات بعد تدوينها، لكي يتسنّى لهذه النيابات اتخاذ القرار المناسب بشأن المدعى عليهم، وفي هذا الإطار يقول فياض إذا كان فعلاً هذا ما يجري فإنه أيضاً يمثّل مخالفة للقانون، لأنه يفترض أن يجري العلم بالرؤيا لا العلم بالسمع.
ويعزو المرجع القضائي استعمال هذا الأسلوب، مع إقراره بعدم قانونيته، إلى عدم توافر تقنيات اتصال حديثة في المخافر والنيابات العامة، تتيح الاطّلاع على ملف التحقيق بصورة فورية، كوجود الفاكس أو الإنترنت. ويقترح أن تُضبط آلية التواصل الهاتفي بشأن محاضر التحقيقات بأن تسجّل المخابرات الهاتفية بين النيابات العامه والمخافر، وبذلك يمكن اقتفاء أثر أيّ خطأ قد ينتج من الإفادة بنتائج التحقيقات. أو أن يُستحدث منصب وكيل نيابة عامة، كما هو معمول به في بعض الدول العربية، ويكون موجوداً دائماً في أقسام الشرطة للاطّلاع المباشر على سير التحقيقات، ونتيجتها وإصدار القرارات المناسبة بشأنها.

المحكوم آخر من يعلم

فوجئ صبحي بتوقيف الأمن العام اللبناني له في مطار بيروت الدولي، لوجود حكم غيابي بحقّه، يقضي بسجنه لمدة شهر، بتهمة ضرب شخص كان على خلاف معه.
يقول صبحي «لم يكن لديّ أدنى علم بأن هناك شكوى بحقّي، ولم أُبلّغ أيّ استدعاء للمثول أمام المحكمة، وحوكمت غيابياً وصدر حكم بحقي». وتدمع عيناه وهو يخبرك عن رحلته بين نظارة الأمن العام والمخفر، الذي كان يتولى ملف الشكوى بحقه، وسجن رومية، رحلة استغرقت ستة أيام «مُسحت فيها كرامتي بالأرض»، يقول صبحي، قبل أن يُخلى سبيلي بعدما اعترض على الحكم الصادر غيابياً. صبحي أُبلغ لصقاً كما هو وارد في نص الحكم، على آخر عنوان سكن له، وهو كان قد انتقل للسكن في مكان آخر، ممّا حال دون تبلّغه أوراق الدعوى المرسلة من القضاء.
من هو المسؤول عن تبليغ القرارات الصادرة عن القضاء، وعن ضمان وصولها إلى المطلوب تبليغه على عنوانه، الذي يقيم فيه فعلاً؟ نصّت المادة 147 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على إنشاء مفارز أمنية خاصة تكون تابعة مباشرةً للنائب، ولقاضي التحقيق الأوّل ولرؤساء الهيئات والمحاكم المختصّة، وتكون مسؤولة أمام رئيس الهيئة القضائية، ويوكل إليها تبليغ أوراق الدعوى والمذكّرات والأحكام والقرارات القضائية. ولكون هذه المفارز لم تُنشأ حتى الآن فإن المسؤولية أُنيطت برجال الدرك.

المسؤولية ضائعة والإشكاليات مستمرة

إشكاليات تتراكم في قضايا التبليغات العدلية، تؤدّي إلى تعرّض العشرات أمثال صبحي يومياً للتوقيف بأحكام غيابية، مع ما يرافق هذا التوقيف من ظروف باتت معروفة لدى الهيئات الحقوقية المحلية والدولية، لجهة عدم إنسانيتها وعدم احترامها لحقوق الموقوف وكرامته. أضف إلى ذلك أن مدة التوقيف تمتد أحياناً كثيرة لتتجاوز المدة المنصوص عنها في قانون المحاكمات الجزائية، ممّا يعني تحوّلها إلى حالة احتجاز حرية، المعاقَب عليها قانوناً.
مدة التوقيف تمتد أحياناً كثيرة لتتجاوز المدة المنصوص عنها في قانون المحاكمات الجزائية
لهذه الإشكاليات سببان يقول المحامي فياض، الأول ضعف الإمكانات المادية والبشرية عند جهاز الدرك، مما يجعله في وضع غير المتمكن من الإحاطة إحاطةً كاملة بموضوع التبليغات، التي تقدّر بمئات الألوف سنوياً، وهذا ما يدفع ثمنه المواطن المعني بموضوع التبليغ، فيجد نفسه في مواجهة حكم غيابي، أو بلاغ بحث وتحرّ أو مذكّرة توقيف غيابية، وهو ليس له أيّ علم بما يجري، وبما أوصل الأمور إلى هذا المستوى من التأزّم. والوجه الثاني هو عدم حصول عملية الاستقصاء والبحث عن المطلوب تبليغه بالقدر الكافي، إذ إنه غالباً ما تفاد النيابة العامة أو المحاكم الجزائية من جانب الضابطة العدلية بأننا «ذهبنا إلى منزل الشخص المعنيّ وسألنا عنه وتبيّن لنا أنه متوارٍ عن الأنظار»، يقول فياض إنه قبل إفادة الجهات القضائية بأنه لم يُعثَر على الشخص المطلوب، أو أنه متوارٍ يجب أن تكون عملية البحث عنه قد جرت بصورة تفصيلية، أي إنه يجب أن تذكر بالتفصيل الأسباب التي أدت إلى الوصول إلى هذه النتيجة، ومن هم الأشخاص الذين جرى سؤالهم حتى توصّلنا إلى أنّ الشخص المذكور متوار عن الأنظار، والغاية من ذلك، يضيف المحامي فياض، هي تحديد المسؤوليات. إذ إن الإفادة الخطية المعلّلة والمفصّلة، التي تبرر اتخاذ القرار بحق المشكو منه أو المدعى عليه، إن لجهة إبلاغه لصقاً أو لجهة إصدار أيّ قرار قضائي آخر بحقه، هي التي تمنع إساءة التصرف، أو إساءة اتخاذ التدبير المناسب، وأنه يجب ألّا يُكتفى فقط بالسؤال عن الشخص المطلوب في مكان سكنه، إذ يجب أيضاً أن يُسأل عنه في مسقط رأسه، وذلك بإنابة مخفر المنطقة القيام بذلك.
وفي هذا السياق، يكشف لنا المسؤول القضائي عن أمر لافت حينما يقول إن هناك عدداً من محامي المدّعين يتعمّدون إعطاء الجهات القضائية المختصة عناوين غير صحيحة للمدعى عليهم. وذلك بغية تأمين إصدار أحكام غيابية أو بلاغ بحث وتحرّ، وحتى مذكّرات توقيف غيابية، بحق هولاء وذلك في إطار سياسة الضغط بغية تأمين ما يعتقدون أنه مصالح موكّليهم. ويضيف المصدر إن هذا الأمر عدا أنه مخالفة خطيرة لقانون ممارسة مهنة المحاماة، فإنه أيضاً يعرّض مرتكبه لجرم الملاحقة بتهمة تضليل العدالة.

أبعدوا عنّا هذه الكأس

تمثّل عملية التبليغات القضائية أحد مكامن الوجع الأساسية في جهاز الدرك، يقول قائد هذا الجهاز العميد أنطوان شكور، الذي يضيف إن مهمّات التبليغ العدلي ليست في الأساس من اختصاص قوى الأمن بل هي من اختصاص دائرة المباشرين في وزارة العدل، ولكن ظروف استثنائية مرت بها البلاد أدّت إلى تكليف قطعاتنا بهذه المهمة، والآن بعد زوال هذه الظروف يجب أن تعود هذه المهمّات إلى جهاز المباشرين.
إضافةً إلى ذلك، يقول العميد شكور إن الوضع الحالي لجهاز الدرك «لا يؤهّله للقيام بهذه المهمة، إن لجهة العديد أو العتاد، وخاصةً عندما نعرف أن عدد التبليغات العدليه والإداريه يفوق 400000 ألف تبليغ سنوياً، وأن قطعاتنا العاملة في مختلف المناطق اللبنانية غير مزوّده بأكثر من آلية واحدة أو اثنتين، كما أن العدد الموجود من الرتباء والأفراد بالكاد يكفي للقيام بمهمّات حفظ النظام وتوطيد الأمن»، وأنه كان قد رفع كتاباً في 8/ 5/ 2007 إلى المدير العام لقوى الأمن الداخلي يطلب فيه إعفاء قطعات قوى الأمن من مهمّات التبليغات الإدارية والعدلية. ويرى العميد قائد الدرك أنّ إزالة هذه المهمة عن كاهل جهاز الدرك من شأنها تحسين أدائه بالتأكيد في مهمّاته الأساسية، التي تتمثّل في حفظ النظام، والعمل على قطع دابر الأعمال الإجرامية.
ويرى العميد شكور أن إعادة هذه المهمة إلى جهاز المباشرين هي أفضل بكثير من أن تبقى في عهدة جهاز الدرك، وذلك للأسباب التالية: «أن إقامة جهاز مباشرين مؤلّف من أبناء المناطق من شأنه أن يحسّن كثيراً من عملية التبليغات العدلية لكون هؤلاء يستطيعون الوصول بسهولة أكثر إلى المطلوب إبلاغهم، عكس الدرك في المخافر، الذين جلّهم يخدمون في قطعات بعيدة عن أماكن سكنهم، مما يجعل إلمامهم بجغرافية المنطقة، التي يذهبون للتبيلغ فيها، ضعيفاً جداً، إن لم يكن معدوماً. وما يزيد الطين بلّة أن شوارعنا وأبنيتنا غير مزوّدة ترقيماً واضحاً يسهّل عملية الوصول إلى المكان المقصود بالتبليغ». كما أنه إذا تعذّر إيجاد المطلوب تبليغه فإن المباشر، لكونه من أبناء المنطقة، يستطيع تقصّي مكان إيجاده بسهولة أكثر، وإيصال التبليغ إليه، حتى لو كان المطلوب تبليغه يقطن خارج منطقته.


مسؤولية التلكؤ