تجاوزاً للحقّ بالخصوصيّة الفرديّةنبيل المقدم
تستعين بعض المصارف اللبنانية بخدمات شركات خاصّة بغية الاستعلام عن مؤسسات أو أفراد تقدموا بطلبات للتعامل التجاري معها، وذلك بهدف الاطمئنان إلى سلامة أوضاعهم المالية وإلى قدرتهم على الإيفاء بالتزاماتهم تجاه المصرف. تؤكد مديرة في أحد المصارف الكبرى في بيروت صحّة ذلك، وتضيف إن طبيعة الاستعلام «قد تشمل جوانب شخصية وخاصة في حياتهم قد تساعدنا في تقويم أوضاعهم المالية والاقتصادية قبل منحهم التسهيلات المصرفية المطلوبة». وهي معلومات لا يمكن الحصول عليها من خلال الاستمارة التي يوقّعها للمصرف طالب الاقتراض أو التسهيلات المصرفية، وتتعلق بكامل تفاصيل حساباته الدائنة والمدينه في جميع المصارف والبنوك وعلاقاته بمحيطه الاجتماعي والعائلي ومعلومات عن سجله القضائي و«سمعته الشخصية» (كما تشير وثيقة حصلت عليها «الأخبار»).
ولا تقتصر عمليات الاستعلام على الزبائن الجدد «بل قد تشمل بين الحين والآخر عملاء مصرفيين موجودين لدينا أصلاً وذلك كي لا نفاجأ يوماً بما يمكن أن يؤثر سلباً على حجم استثماراتنا معهم ونقع في مشكلة تعثّر السداد» كما تقول المديرة التي طلبت عدم ذكر اسمها لعدم سماح مجلس إدارة المصرف الذي تديره بتناولها الموضوع علناً.
الاستعانة بتلك الشركات لجمع المعلومات قد يعدّ خرقاً للسرية المصرفية وانتهاكاً للحريات الشخصية، لكن مديرة المصرف ترى أن العميل «متنازل عن السرية المصرفية عند توقيعه أي اتقاقية مالية بينه وبين المصرف»، ولا تجد في الأمر انتهاكاً للحرية الشخصية، إذ إن «المصرف له حق اتخاذ جميع التدابير التي تكفل له الحفاظ على أمواله وأموال المسثتمرين والمودعين فيه».

تنازل عن السرية... كلا

لبعض هذه الشركات نشاط أمني واستخباري عبر مراقبة تحرّكات واتصالات أشخاص معينين
المادة 2 من قانون السريّة المصرفية (الصادر في 3 أيلول 1956) تخالف رأي مديرة المصرف، إذ تنصّ على أن مديري المصارف ومستخدميها وكل من له اطّلاع بحكم وظيفته بأيّ طريقة كانت على قيود الدفاتر والمعاملات والمراسلات المصرفية ملزمون بكتمان السر إطلاقاً لمصلحة زبائن هذا المصرف، ولا يجوز لهم إفشاء ما يعرفونه من أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلّقة بهم لأي شخص أو فرد كان، سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية إلا إذا أذن لهم بذلك خطياً صاحب الشأن أو ورثته أو الموصى لهم أو إذا أعلن إفلاسه أو إذا نشأت دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبائنها.
لكن، هل يعدّ التنازل عن السرية المصرفية تنازلاً مطلقاً أم هو محصور ضمن الحدود اللازمة للمعاملة المصرفية؟ وهل يحقّ لهذه المصارف كشف حسابات زبائنها أمام شركات جمع واستقصاء المعلومات؟
«إن حصول شركات جمع المعلومات على معلومات عن حسابات الزبائن الموجودة في المصارف ولا سيما الحسابات المدينة هو خرق واضح للسرية المصرفية» يقول المحامي بلال الحسيني، مضيفاً إن التنازل عن السرية المصرفية يكون ضمن الحدود اللازمة للإذن المعطى من أصحاب الحسابات، والحدود اللازمة للإذن تكون دائماً مرتبطة بالعقد نفسه دون سواه من العقود. بمعنى آخر إنه لو كان للعميل معاملات مصرفية أخرى مع المصرف فإن إعطاء الإذن في معاملة محددة لا يرفع السرية المصرفية عن بقية المعاملات والحسابات، والإذن يجب أن يبقى ضمن إطار تعامل المصارف في ما بينها ولا ينسحب مطلقاً خارج هذا الإطار. حسبما نصّت المادة 6 من قانون السرية المصرفية. ويشير الحسيني إلى المادة 151 من قانون النقد والتسليف، التي تنصّ على أن على كل شخص ينتمي إلى المصرف المركزي، أو كان ينتمي بأيّ صفة كانت، أن يكتم السر المنشأ بقانون 3 أيلول 1956، ويشمل هذا الموجب جميع المعلومات والوقائع التي تتعلق ليس فقط بزبائن المصرف المركزي والمؤسسات المالية، وإنما أيضاً بجميع المؤسسات المذكورة نفسها التي يكون قد اطّلع عليها بانتمائه إلى المصرف المركزي.

ويلات الـ«بلاك ليست»

إن حصول شركات على معلومات عن حسابات الزبائن هو خرق واضح للسريّة المصرفيّة
فتح ربيع حساباً في أحد المصارف في بيروت وتقدم بطلب اقتراض مبلغ من المال بعدما قدّم جميع الوثائق المطلوبة. وبعد مرور ثلاثة أسابيع أعلمه المصرف برفض طلبه. علم الشاب من خلال حديث جانبي مع أحد موظفي المصرف أن سبب الرفض يعود إلى ورود اسمه على ما يعرف بـ«بلاك ليست» (لائحة سوداء) وضعتها شركة خاصة تتضمن أسماء الذين ترتجع لهم شيكات ويستحسن عدم إقراضهم. ويقول ربيع إن الموظف نصحه بالذهاب إلى هذه الشركة وتسوية وضعه هناك. فاتصل ربيع بهذه الشركة ودفع مئتين وخمسين دولاراً أميركياً بغية رفع اسمه عن «البلاك ليست» لأن اسمه ظل وارداً على تلك االقائمة، رغم تسويه وضعه مع المصرف المركزي واستحصاله على إفادة تثبت ذلك.
من يضمن صحة ودقّة المعلومات التي تستقيها هذه الشركات من المؤسسات والأشخاص المستقصى عنهم طالما أن الشركات نفسها تشكّك بدقة معلوماتها وذلك من خلال إعلانها صراحة في وثائقها المسلّمة إلى زبائنها أنها لا تتحمل مسؤولية المعلومات المعطاة من قبلها.

الذمّ بسمعة الناس

هل تعدّ بعض المعلومات المتعلقة بسمعة الأشخاص انتهاكاً لحريتهم الشخصية وذماً بسمعتهم؟
نصّت المادة 385 من قانون العقوبات اللبناني على تعريف الذم بالقول إنه نسب أمر إلى شخص ولو في معرض الشك أو الاستفهام ينال من شرفه وكرامته، وتعدّ وسائل النشر نوعاً من أنواع الذم حسبما جاء في المادة 209 من قانون العقوبات، وتعتبر وسائل النشر هي الكتابة والرسم والصور اليدوية والشمسية والأفلام والشارات والتصاوير، على اختلافها إذا عرضت في مكان عام مباح للجمهور أو معرّض للأنظار أو بيعت أو عرضت للبيع أو وزّعت على شخص أو أكثر.
كذلك نصت الفقرة «ب» من مقدمة الدستور اللبناني على أن لبنان ملتزم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبأن الدولة تجسّد المبادئ التي يتضمنها في جميع الحقوق والمجالات، كما نصّت المادة 12من من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته ولحملات تمسّ شرفه وسمعته، ولكل شخص حق في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل أو تلك الحملات.

نشاطات في اتجاهات عدّة

لا يقتصر عمل هذه الشركات على تقديم خدماتها إلى المؤسسات المصرفية والمالية فقط، فهناك بعض الشركات التجارية الكبرى، التي تمتلك وكالات لماركات عالمية في لبنان، تلجأ إلى هذه الشركات بغية التحري عما إذا كانت هذ الماركات الحصرية تباع في محالّ تجارية أخرى أو تقلّد في لبنان. وطبعاً يجري ذلك لقاء أجور تدفع لهذه المؤسسات الاستعلامية. كما أن لبعض هذه المؤسسات نشاطاً ذا طابع أمني واستخباري، فهي قد تكلف بمراقبة تحركات واتصالات أشخاص.
وأفاد الخبير القانوني المحامي كارلوس داود في حديث مع «الأخبار» بأن «بعض مروّجي المخدرات في لبنان وبعض العصابات يلجأون إلى مثل هذه الشركات في مراقبة تحركات العصابات المنافسة والحصول على معلومات عنها».

دولة ضمن دولة

«يمكنك الحصول على أي معلومة تريدها مهما كانت لقاء اشتراك سنوي يدفع مسبقاً يترواح بين مئة وخمسين دولاراً ومئتي دولار أميركي سنوياً، بعد ذلك يتم تقاضي عشرين دولاراً أميركياً عن كل معلومة تطلبها» قالت موظّفة في إحدى شركات جمع المعلومات تعود إلى حبيب المصري. أما عدنان عبد الساتر، وهو أيضاً صاحب مؤسسة تتعاطى هذا النوع من الاعمال فيقول «إننا نستطيع الحصول على أي معلومة نريد»، فيما ينفي المصري وهو مدير إحدى هذه المؤسسات أيضاً أن تكون شركته تمارس نشاطاً يتعلق بجمع معلومات عن الأوضاع المالية والقضائية والاجتماعية لأشخاص أو مؤسسات. ويقول إن عمل شركته يقتصر على «التأكد من صحة البيانات التي يقدمها طالبو الاقتراض من المصارف وذلك لجهة التدقيق في عناوين السكن وإفادات العمل، وعما إذا كانت صحيحة ومطابقة لواقع الحال».
ما ينفيه المصري تؤكده إحدى الموظفات في شركته، إذ قالت في اتصال مع «الأخبار» إن الشركة من خلال بنك المعلومات لديها والذي يتم تحديثه يومياً من خلال عدّة مصادر «منها قلم النيابات العامة والسجل التجاري وبعض الأجهزة الأمنية يتجاوز في حداثة ودقة معلوماته معلومات الأجهزة الرسمية وحداثتها في أمور كثيرة، وإن هناك بعض السفارات الأجنبية الكبرى متعاقدة معنا في طلب معلومات معينة عن طالبي التأشيرات وغير طالبي التأشيرات».
هذه المعلومات يؤكدها سمير (اسم مستعار) وهو موظف في إحدى الإدارات الرسمية الذي يقول «إننا نقدم خدمات معينة لهذه الشركات من خلال تسهيل حصولها على معلومات معينة يلزمها الكثير من الوقت والجهد للحصول عليها من دون مساعدتنا، وذلك لقاء إكراميات معينة».

شركات غير شرعية

بعض العصابات تلجأ إلى مثل هذه الشركات في مراقبة تحركات العصابات المنافسة
ليس في لبنان قانون ينظّم ويرخّص عمل هذه الشركات أو الأفراد الذين يعملون في جمع هذا النوع من المعلومات، هذا ما يقوله الخبير القانوني كارلوس داود. ويضيف إنه انطلاقاً من هذه القاعدة يمكن القول إن عمل هذه الشركات غير شرعي وإن المعلومات التي يستحصلون عليها إنما تتم بطريقة غير قانونية، وفي حال استعمال هذه المعلومات من قبل طالبها أمام سلطات أو مؤسسات عامة أو خاصة، فلا قيمة قانونية لها. ويكشف داود لـ«الأخبار» عن معلومات لديه تقول إن بعض هذه الشركات تلجأ بطريقة ما إلى وضع بعض الأشخاص المطلوب التحري عنهم تحت المراقبة الدائمة من خلال دس كاميرات أو أجهزة تنصّت داخل مراكز العمل أو السكن، كما أنها تقوم بتقديم خدمة التنصّت على الأجهزة الخلوية وذلك بعيداً عن رقابة وزارة الاتصالات.

شركات التنصّت

ما يقوله المحامي داود عن عمليات التنصت على الخلوي يؤكده وجود شركات في لبنان مسجلة في السجل التجاري، وهي تعلن عن نفسها عبر مواقعها الإلكترونية كشركات متخصصة بتقديم خدمات التنصت واعتراض المكالمات الهاتفية، وتحدد الكلفة المالية التي تقدمها لقاء هذا النوع من الخدمات، وكذلك هي تروّج لعملها هذا بنشر إعلانات بذلك في بعض الصحف المحلية، ما يمثّل خرقاً فاضحاً للقانون رقم 140 الصادر في 27/10/1990 الذي ينصّ على الحق في سرية التخابر داخلياً وخارجياً بأي وسيلة من وسائل الاتصال السلكية أو اللاسلكيه ويحدد الأجهزة الهاتفية الثابتة والأجهزة المنقولة بجميع أنواعها، بما فيها الخلوي والفاكس والبريد الإلكتروني وعلى أن سرية التخابر مصونة في حمى القانون وهي لا تخصع لأيّ نوع من أنواع التنصت أو الاعتراض إلا في الحالات التي ينص عليها القانون وبواسطة الوسائل التي يحدد أصولها.
أخيراً، يبقى السؤال من يراقب عمل هذه الشركات ومن يشرف على بنك المعلومات الموجود لديها، وما هو الإطار القانوني الذي يبيح لهذه الشركات التعاقد مع بعض السفارات وتقديم المعلومات لها، ومنها سفارات «مهتمّة جداً» بشؤون لبنان واللبنانيين؟


تحميل المواطن كامل المسؤولية

نفى صاحب إحدى شركات جمع المعلومات، عدنان عبد الساتر، في اتصال مع «الأخبار»، أن تكون شركته، من خلال عملها في جمع المعلومات، تقوم بما يتنافى مع قانون السرية المصرفية. وقال: «إننا نجمع معلوماتنا من التجار ومن قلم الدعاوى المباح لكل الناس». وعن تقويمهم لسمعة الأشخاص، حيث يأتي بعضها سلبياً، لم يُعر عبد الساتر الأمر أي اهتمام، ولم يرَ أنه يتضمن أي نوع من أنواع الذم، مضيفاً أن «الشخص المتناول في هذا التقويم هو مسؤول بالدرجة الأولى عن سمعته وليس من يجمع المعلومات عنه». وكان عبد الساتر قد أكّد في اتصال سابق قدرته على «الوصول إلى أي معلومة نريدها»، لكنه «فسّر» كلامه قائلاً إنه يقصد بذلك «أي معلومة تجارية».
وهدّد عبد الساتر بمقاضاة «الأخبار» إذا ورد أي كلام في هذا النصّ لم يرد على لسانه. وكان الرجل غاضباً جداً خلال حديثه عبر الهاتف، وقال: «نحن نتحدى من يثبت أننا نجمع معلوماتنا من المصارف».
أما حبيب خليل المصري، وهو صاحب شركة مماثلة لشركة عبد الساتر، فقرّر أيضاً التراجع عن الكلام الذي كان قد قاله لـ«الأخبار»، مدّعياً أنه لم يكن على علم بأن كلامه سيُنشر، رغم إعلام المحرّر له عن صفته وعن هدف الاتصال به.
لكنّ المصري شدّد على أن شركته «لا تدفع إكراميات لموظفين رسميين». وأصرّ على أن التأكد من عناوين الناس هو من بين الأعمال التي تقوم بها شركته، وليست الخدمة الوحيدة.