يأمل المتبعون لشؤون القضاء أن يكون انتقال معهد الدروس القضائية إلى مقره الجديد في الأشرفية حافزاً للانتقال إلى مرحلة متطورة لإعداد القضاة في لبنان، وتأهيل كل أعضاء الجسم الحقوقي. ويدرك المهتمون بالشؤون القانونية في البلاد، أن الهبات الخارجية تبقى صاحبة الفضل في أي تقدم
إكرام شاعر
«من بين السلطات الثلاث التي تكلمنا عنها (السلطة التشريعية، التنفيذية والقضائية) تبدو السلطة الأخيرة شبه ملغاة» قالها مونتسكيو الذي يعتبر صاحب نظرية فصل السلطات في المحور 11 من كتابه «روح الشرائع»، لكن هذا الخطاب الذي يعود إلى عام 1748 عفا عليه الزمن اليوم، فالسلطة القضائية تضطلع بدورها في تحقيق العدالة رغم كل المعوقات، ومعهد الدروس القضائية الذي يعمل على إعداد القضاة من الناحيتين النظرية والعملية يطل بحلة جديدة بعد ورشة تأهيل موّلتها الوكالة الأميركية للتنمية كهبة ووافق عليها مجلس الوزراء قبل 5 سنوات. بين الطبقتين الثالثة والسابعة في مبنى «رزق» في الأشرفية يقع المقر الجديد للمعهد الذي عانى طويلاً الإهمال.
أنشئ معهد الدروس القضائية في عهد الرئيس فؤاد شهاب، ومرّ مخاض الولادة العسير بمرحلتين تشريعيتين، الأولى عام 1961 بمثابة وضع الحجر الأساس، والثانية مرحلة تعديل تعدل فيها المرسوم 10494/62 بموجب المرسوم 7238/ 67 لتتوج بصدور المرسوم الاشتراعي الرقم 150/83 (قانون القضاء العدلي)، الذي تضمن في الفصل الثاني منه ــــ الباب الثالث الأحكام القانونية المتعلقة بالمعهد والتي خضعت لتعديلات أساسية عام 1985.
«أقسم بالله بأن أحرص على حفظ سر المذاكرة وأن أتصرف في كل أعمالي تصرف القاضي المتدرج الصادق الشريف»، تنص المادة 65 من قانون القضاء العدلي أنه يجب على القضاة المتدرجين أن يقسموا اليمين فور تعيينهم أمام محكمة استئناف بيروت، لكن قبل إدلاء اليمين لا بد من رحلة طويلة لدخول المبنى الجميل في الأشرفية.
يحدد وزير العدل كلما دعت الحاجة، بعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى، عدد القضاة المتدرجين المنوي تعيينهم، ويطلب من المجلس تنظيم مباراة لهذه الغاية، ويتضمن الإعلان الشروط الأساسية المنصوص عنها في القانون والشروط الإضافية التي يحددها المجلس وفقاً للمادة 60 من القانون المذكور كالمواد المطلوبة ومعدل علامات القبول. تنطبق هذه الأصول على مكتب مجلس شورى الدولة وديوان المحاسبة، ثم يصدر الوزير قراراً لتنظيم المباراة. نظمت المادة 68 من قانون القضاء العدلي إمكانية تعيين قضاة متدرجين دون مباراة من بين حملة دكتوراه دولة في الحقوق، وذلك بمرسوم بناءً على اقتراح وزير العدل وبعد موافقة مجلس القضاء الأعلى، حيث يخضع المرشح لمقابلة شفهية واحدة أمام المجلس يقبل بنتيجتها قاضياً متدرجاً أو يُحال طلبه للمشاركة في الامتحان الخطي. خروجاً عن الأصول العادية التي ينص عليها القانون من أجل تعيين قضاة أصيلين بعد فوزهم في المباراة، عُيّن في السابق عدد منهم من بين المحامين بمرسوم دون خضوعهم للمباراة أو التدرج في المعهد مثل قانون رقم 304/94. هذه «السوابق الاستثنائية» تطرح بالخط العريض إشكالية تتمحور حول مدى صمود مبدأ فصل السلطات وما يستتبع ذلك من تحرر القضاء النزيه والعادل من القيود السياسية، وخاصة أن السلطة التشريعية هي التي تعين أفراد السلطة القضائية. يضم معهد الدروس القضائية 3 أقسام، فقسم القضاء العدلي مخصص لتهيئة القضاة المتدرجين لتولي العمل القضائي في المحاكم العدلية، هؤلاء سيتابعون خلال الدورة الأولى من العام الدراسي الأول دروساً نظرية معمقة، بالإضافة إلى تمارين تطبيقية، ويُلحاقون بعدها بالدوائر القضائية المختلفة خلال الدورات الخمس الباقية (30 شهراً) بقرار من رئيس المعهد ولفترة زمنية تتراوح بين ثلاثة وأربعة شهور، ويتابعون في موازاة ذلك الدروس في المعهد.
يهدف قسم القضاء المالي إلى تحضير المتدرجين لتولي العمل في ديوان المحاسبة
يمثّل القضاء الإداري قسم القانون العام في المعهد، فيُلحق القضاة المتدرجون بإحدى غرف المحاكم الإدارية أو مجلس شورى الدولة لتحضيرهم لتولي العمل القضائي في هذين المجالين، فضلاً عن متابعة الدروس في المعهد. فيما يهدف قسم القضاء المالي إلى تحضير المتدرجين لتولي العمل في ديوان المحاسبة الذي تكمن أهميته في السهر على الأموال العمومية والأموال المودعة في الخزينة، علماً بأن القسم المالي في المعهد أُنشئ بموجب القانون الرقم 123/92 مع أن ديوان المحاسبة، أنشئ فعلياً قبل ذلك بكثير (بموجب المادة 223 من قانون المحاسبة العمومية1951).
ويتناول التدرج مشاركة القضاة في ندوات ومؤتمرات ونشاطات داخل المعهد وخارجه كزيارة المؤسسات العقابية والإصلاحية ومراكز توقيف الأحداث والإدارت العامة والمؤسسات الاقتصادية. عملية تأهيل مبنى المعهد ستترافق مع مشروع علمي متكامل لتحديث المناهج التي ستضم، فضلاً عن المواد الأساسية في القانون، محاضرات حول حقوق الملكية الفكرية وبرامج المعلوماتية وأساليب حل النزاعات غير القضائية كالوساطة والتحكيم لمواكبة تطور معاملات التجارة الدولية والاهتمام المتزايد باجتذاب الرساميل الأجنبية.
في الدورة الأخيرة من السنة الثالثة للتدرج، يرفع كل من رئيس المعهد ومديره كتاباً إلى مجلس الإدارة، يتضمن بالإضافة إلى العلامات التي نالها كل قاض، باباً خاصاً يتناول سلوك القاضي المتدرج في المعهد وخارجه، مع زملائه ومع القضاة الذين تدرج لديهم، فضلاً عن تحليل لشخصيته وتطلعاته العلمية والثقافية. تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يمثّل السند الأساسي في عملية المداولة والمذاكرة التي يجريها مجلس إدارة المعهد لرفع التوصية إلى مجلس القضاء الأعلى أو مكتب مجلس شورى الدولة أو ديوان المحاسة، فيضع عندها «لائحة التخرج»، وتشير الإحصاءات إلى أن المعهد قد خرّج منذ عام 1963 قاضياً أصيلاً 570، بينهم 192 قاضية. القضاة المعلنة أهليتهم يعينون قضاة أصيلين بمرسوم ويلحق هؤلاء حكماً بوزارة العدل بانتظار إلحاقهم بوظائف قضائية محددة من خلال مرسوم المناقلات القضائية.
يهدف المعهد أساساً إلى تقديم دورات التأهيل والتمكين المستمر لكل الأشخاص العاملين في الجسم القضائي. من هنا خصص الاتحاد الأوروبي هبة بقيمة 1,2 مليون يورو لتنفيذ التعاون بين المعهد والمدرسة الوطنية للقضاء في فرنسا والمدرسة الوطنية للكتبة في ديجون، وذلك في إطار مشروع «تعزيز قدرات وزارة العدل ــــ دعم الاحترافية المهنية (أكوجوريس) لمساندة الاحترافية المهنية لمختلف أعضاء الهيئات الحقوقية من قضاة ومحامين ومساعدين قضائيين وأطباء شرعيين، كما انتهج المعهد سياسة الانفتاح تجاه المؤسسات القضائية في الخارج لتبادل الخبرات والوفود، فارتبط باتفاق تعاون مع المعهد الوطني للقضاة في فرنسا والمدرسة الوطنية لإدارة السجون فيها، واتفاقية عمان للتعاون العلمي بين المعاهد القضائية العربية.


عن النشرة وأبحاث القضاة

إن إصدار النشرة القضائية كان منوطاُ بالمعهد (المادة 17 من المرسوم 10494/62) لكنها حالياً خارجة تماماً عن نطاقه، وقد توقفت لأسباب مالية تعانيها وزارة العدل، لكن البعض يعتبرها مكسباً كبيراً للوزارة حيث لا يخلو منها أي مكتب مرتبط بالشأن القانوني، علماً بأنها يجب أن تكون بما تتضمنه من الأحكام والقرارات والأبحاث أهم روافد طاقات المعهد العلمية. يُشار إلى أن لدى المعهد سيلاً من الأبحاث التي أعدها القضاة المتدرجون منذ 1961، وقد وُضعت فهرسة عناوينها وأدخلت إلى الحاسوب، لكن لم تُدخل نصوص الدراسات بعد على موقع المعهد الإلكتروني.
من جهة ثانية، يُشار إلى أن المقر الجديد للمعهد يتضمن، فضلاً عن قاعات التدريس، قاعة للمؤتمرات مزودة بشاشات حديثة للعرض ومعدات للترجمة الفورية واتصال لاسلكي بالإنترنت، ما يساعد المشاركين على حسن المتابعة والخوض في المناقشات والكثير من المرافق الأخرى. وأخيراً أصبح الولوج إلى شبكة الإنترنت ممكناً لقضاة متدرجين يتلقون «دروساً معمقة في قانون المعلوماتية».