من الممتع أحياناً أن يسبق حدْسُ الناس والأقوال الشعبية ما ستؤكده الأبحاث لاحقاً، وبعد جهد جهيد. فمنذ سقوط التفاحة على رأس نيوتن، بدأت الجاذبية تدخل إلى التداول اليومي والشعبي وأصبحت تعابير «جذبتني»، «عندو جاذبية قوية» وغيرهما، تعني أحوال الأشخاص المعجبين والمأخذوين بالآخر. وحارَ الناس في تفسير سر ذلك الانجذاب، هل هو الشكل أو الحضور أو ماهية الشخص أو الكاريزما أو تفاعل كيميائي غامض؟
الجواب بالدراسة التي نُشرت في «السيانس» التي جاءت لتقول إن الدماغ يبدأ بتخزين أشكال الوجوه التي نراها منذ ولادتنا، ويضعها لاحقاً ضمن تصنيفات محدّدة، حيث نقوم بمطابقة ما نراه ونلتقيه لاحقاً على ما هو موجود في ذاكرة دماغنا. عندها يحدث التطابق والتماهي بين ما نرى من وجوه، وتلك «اللمعة» أو «الشرقطة» التي تكون بداية الإعجاب. قد يسري ذلك على العديد من الارتباطات والعلاقات التي نعيشها ونراها حولنا.
ثم جاء بحث آخر ليفسّر تطابق شخصين معتمداً على عوامل وراثية وجينية. تحدث البحث للمرة الأولى عن وجود عَصب خاص يُدعى «عَصب زيرو» أو Zero Nerve والذي يمتد عبر الأنف الى الدماغ، وتحديداً المنطقة المسؤولة عن الانجذاب. تبيّن الدراسة أن عند حدوث القُبلة بين شخصين، يحدث تفاعل كيميائي يلتقطه العصب زيرو عند «المُقَبِّليْن» ويرسله للدماغ لتحليل إمكانية تطابقه أو عدمها في منطقة الانجذاب، وليعود بنتيجة ما إذا كان الشخص الذي قبّلناه مناسباً لنا أم لا. ذلك أنّ المواد المحتوية على عوامل وراثية خاصة بالطرفين تتفاعل إما تنافراً وإما انجذاباً. هنا تشير الدراسة إلى أن التفاعل الإيجابي يؤكد أن هذا الشخص هو شريكك بالفطرة وبالتفاعل الوراثي/ الجيني. طبعاً لا تنصح الدراسة ولا تستنتج ضرورة إجراء «فحص التقبيل» قبل القبول. تقتصر مفاعيل دراسات ذلك العصب على العلاقة القائمة على الرغبة والانجذاب الجنسي.
ينجذب الأفراد لألف سبب وسبب، بيد أنّ أولئك الذين يلتقطون إشاراتنا العاطفية هم أكثر حظاً بالفوز بالانجذاب ولاحقاً بالعلاقة. وكما يقال شعبياً ع «نفس الموجة»، بيّنت دراسة صادرة هذا الشهر من جامعة لوبيك من ألمانيا أن الأشخاص ينجذبون لمن يفهمونهم عاطفياً و«يقرأون» جيداً تعابير وجوههم، وهذا مرده الى تطابق الدوائر العصبية في كل من أدمغة المنجذبين، «نفس الموجة».
وتشرح الباحثة بالقول إن القدرة على فهم دوافع الآخر ومشاعره أساسية للعلاقات والتفاعل الاجتماعي. كما أن الوصول الى هدف أو غاية مشتركة يتطلب صيانة العلاقة وتجديد معلومات ومقاصد الشريك وفهم دوافعه ليتسنّى للشريك برمجة سلوكه وبرمجة دماغه لإبقاء العلاقة وتقويتها. الجديد في الأمر أن الدماغ مسؤول عن هذا التطابق والتناغم حيث تبين أن فهم والتقاط مشاعر الآخر أظهرا تفاعلات دماغية ناشطة مقارنة مع حالات التنافر وعدم الفهم. يرجع ذلك الى تفعيل الدماغ لمناطق المكافأة والغبطة عند حدوث سرعة التقاط المشاعر واستيعابها. الملفت أيضاً أن دماغ مُرسل المشاعر يتفاعل بِردّ فعل إيجابي بعد مشاعر المتلقي. يدفع شعور المكافأة الطرفين للاستمرار في التواصل طمعاً بالحفاظ على الشعور الجميل المتولّد بينهما وازدياده.
يعني ذلك أن سوء التواصل بين شخصين قد لا يتعلق برغبتهما بالتواصل أو عدمه، بل بلغة الدماغ التي قد تكون غنية عند البعض، وشحيحة عند البعض الآخر، تماماً كشخصين يلتقيان صدفة ويحاولان التواصل بلغتين مختلفتين أو بجُمَلٍ وتعابير ركيكة. قد لا ينجح ذلك رغم رغبتهما بذلك.
ستكون حتماً دراسات وأبحاث متعددة في هذا المجال وسيخرج منها تطبيقات تهدف الى تعزيز لغة الدماغ وإغنائها لتحسين وتمتين العلاقات الإنسانية والشخصية.
في شرح ممتع في مجلة «السيانتيفيك أميركان» عن مبادرة دراسة الدماغ والتقنيات العصبية هناك أمل كبير لفهم لغة الدماغ الطبيعية، والتحدث للدماغ بجمل كاملة.
مما لا شك فيه أن لغة الدماغ ستكون لها استعمالات وتطبيقات عديدة يمكن أن تساهم في نشر التفاهم بين جموع الأطياف السياسية، وتساعد الشعوب في قراءة أفكار قادتها، وتريح العشاق والمتعبين في غرامياتهم، فلا ألغاز ولا حزازير ولا {ضحك على الذقون}.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحة جنسية