السمنة. ضغط الدم. أمراض القلب الوعائية. قصور وظائف الغدد الصماء. داء السكري من النوع الثاني. السرطان. هذه عينة صغيرة من لائحة تطول يوماً بعد يوم، مع صدور دراساتٍ جديدة عن «ارتباطات» مادة «بسفينول إي» ـ والتي هي مادة كيميائية صناعية تدخل في تصنيع البلاستيك ـ بتغيرات صحة الإنسان. وهذا الارتباط إلى «تفاقم»، فكلما زاد استخدام تلك المادة، زاد ما ينهك الجسد وطالت اللائحة أكثر.
في عام 2010، علت الصرخة في معظم دول العالم، مطالبة بحظر استخدام المادة الكيميائية الشهيرة في تصنيع العبوات البلاستيكية الخاصة بالرضاعة. يومذاك، خرجت دراسات كثيرة تفيد بأن تلك المادة تتسرب من العبوات نتيجة الحرارة وتستقر في قعرها وتختلط مع غذاء الطفل، ناقلة إليه... السرطان في ما بعد. نتيجة هذه الدراسات التي تشير بعض المواقع الطبية المتخصصة إلى أنها تخطت الـ800 دراسة، تحركت الكثير من الدول ومنها معظم دول الاتحاد الأوروبي، حاظراً استخدام تلك المادة في «الرضّاعات»، وفي أسوأ الأحوال تخفيفها قدر الإمكان. في لبنان، لم يحدث شيء، باستثناء نقل الخبر!
لم يحدث شيء، وبقيت بسفينول إي مكوّناً أساسياً يدخل في تصنيع عبوات البلاستيك للرضاعة والمياه وعبوات مشروبات الطاقة وعلب حفط الطعام البلاستيكية. لم يحدث شيء، ومع ذلك، لا تزال الدراسات تقوم «بالواجب» وحيدة. وفي آخر تلك الواجبات، وكانت الدراسة التي قام بها فريق من الأطباء في الجامعة الأميركية في بيروت حول «معدلات مادة البسفينول اي في البول لدى اللبنانيين». وقد أجريت هذه الدراسة في «المدينة» على عينة عشوائية من 501 شخص، حيث جرى التركيز على خمس مراحل منها قياس مادة البسفينول في البول ونوعية المأكل وقياس الطول والوزن والضغط وقياس مستوى الكولسترول وتعبئة استمارة عما يعانونه من أمراض.
في نهاية المطاف، جاءت النتيجة لتثبت وجود علاقة، وإن بشكل غير مباشر، بين البسفينول إي وعدد من الأمراض منها داء السكري النوع الثاني والسمنة. وقد ظهر ذلك جلياً في سجلات الأمراض التي يشكو منها أصحاب العينة. واللافت في تلك الدراسة أن 89% من «الممتحنين» أظهرت نتائج فحوص البول المتكررة لديهم وجود نسب عالية من البسفينول إي تتخطى المستوى. ولدى السؤال عن المستوى الذي من المفترض أن يكون موجوداً؟ يأتي الجواب صادماً «ليس من المفروض أن يكون موجوداً»، يقول الطبيب هاني تميم، أحد الأطباء المشاركين في الدراسة. وهذا إن عنى شيئاً، فهو «استيطان» تلك المادة المسرطنة في أجسادنا بسبب استخداماتنا المكثفة لها. وهنا، يشكو تميم من قلة الرقابة لوجود هذه المادة في حيواتنا. تلك الرقابة المفقودة أصلاً. وهنا يصح تذكير الوزارات المعنية بعبوات المياه البلاستيكية المرصوفة في الشمس أمام المحال التجارية أو الموضوعة في مخازن تفتقد لدرجات الحرارة المطلوبة. وهذا ليس تخميناً. هذا واقع مَعيش.
خطورة تلك المادة التي تبقى قاتلاً صامتاً، في ظل جهل مستهلكيها لها، هو وظيفتها. فبحسب تلك الدراسة ودراسات طبية عالمية أخرى، أن هذه المادة (والتي يرمز لها اختصاراً BPA)، ظهرت منذ البداية كإستروجين مصنّع، وهذا ما جعل منها عنصراً أساسياً في صناعة البلاستيك. وقد نما استخدام هذه المادة في صناعة منتجات مثل البطائن والطلاء وزجاجات الـ«بولي كربونات» والعبوات البلاستيكية، على نطاقٍ واسع خلال السنوات الخمسين الأخيرة. وبسبب خصائصها الصلبة، استطاعت الـ«BPA» أيضاً أن تدخل في تصنيع حشوات الأسنان.

89% من «الممتحنين» أظهرت نتائج عينات البول لديهم نسباً عالية من البسفينول إي تتخطى المستوى



ولأنها مادة تقوم بتقليد وظائف هرمون الإستروجين، تتفاعل الـ«BPA» مع كِلي المستبقلات (receptors) النووية أستروجين «ألفا» و«بيتّا» بدرجات متفاوتة، وتتدخل في تكويناتها الطبيعية، وبالتالي فهي تعمل كمعرقل لوظيفة الغدد الصماء. وأكثر من ذلك، تفيد بعض التقارير الطبية بأن المادة تتفاعل مع مستقبلات هورمون الـ«ثايرويد» (الهرمون المنشط للدرقية)، وهنالك أدلة وافرة، نتيجة البحوث المختبرية والحيوانية، تؤكد أن التأثيرات المرضية على وظائف التمثيل الغذائي والجهاز التناسلي هي نتيجة لهذا التفاعل.
هذا ما تفعله مادة البي بي إي. بكل بساطة، تلعب دوراً رئيسياً في عرقلة وظائف الغدد الصماء. تلك «اللخبطة» في الوظائف التي تؤدي في نهاية المطاف، بحسب دراسات كثيرة، إلى التسبب بأمراض سرطان الثدي لدى النساء. ولئن كانت تلك الدراسة، لم تظهر هذه الأمور، باعتبار أن ثمة حاجة لإجراء دراسة مفصّلة قد تستمر سنوات من أجل تبيان تلك العلاقة، تشير دراسة قام بها مجموعة من علماء الكيمياء الحيّة في جامعة تكساس، أعطوا من خلالها نظرة أقرب «لفهم كيف يعزز المركب الصناعي الذي يدعى BPA المستعمل بشكل شائع من نمو سرطان الثدي». وفي هذا الإطار، وجد هؤلاء الباحثون أن «خلايا الغدة الثديية وخلايا سرطان الثدي عند تعرضها لمادة BPA في التجارب المخبرية، ستعمل هذه المادة وبشكل مشترك مع الجزيئات الموجودة بشكل طبيعي بما فيها الإستروجين لإنتاج كميات شاذة من التعبير الجيني لجزيء HOTAIR». وقد وجدت هذه الدراسة أن «BPA يعطل الوظيفة الطبيعية لمستقبلات الإستروجين عند تواجده، وهو الذي ينظم في الظروف الطبيعية جزيء HOTAIR، أما في غيابه، فمن المحتمل أن تتورط في نمو الورم وعدد من السرطانات».
هذا ليس اكتشافاً وحيداً. فجرص الإنذار لخطر هذه المادة قد دقّ، ولكن من يراقب؟ من يحاسب؟ من يحمي المواطنين من الموت المجاني؟




ابحثوا عن منتجات الكرتون والزجاج

بينت دراسة قام بها أطباء من عدة جامعات ومراكز بحثية منها جامعة هارفارد في الولايات المتحدة، وكذلك جامعة سيمون فرايزر في كندا، أن كثرة تعرض المرأة الحامل لمادة «BPA» يسبب تغيراً في السلوك والانفعال العاطفي للأطفال. فقد وجد الباحثون أن تعرض الأم أثناء الحمل لمثل هذه المادة يكون له أثره البالغ على الأطفال في عمر 3 سنوات، خصوصاً الفتيات، حيث قام الباحثون بتجميع معلومات من 244 سيدة في فترة الحمل وحتى بلوغ أطفالهم سن 3 سنوات في نفس الظروف الصحية والبيئية. وقد جرى أخذ عينات من البول من الأمهات 3 مرات أثناء الحمل وعند الولادة، وبالنسبة إلى الأطفال، جرى أخذ عينات من البول 3 مرات كل عام بداية من السنة الأولى وحتى السنة الثالثة. وحينما، أتم الأطفال عامهم الثالث، جرى سؤال الأمهات عن سلوك أطفالهن، فكان الجواب بأن «هناك تغيراً في السلوك»، برغم عدم وجود أي تغير طبي أو إكلينيكي لدى هؤلاء الأطفال.
وفي هذا الإطار، واستناداً لتلك الدراسة، وضعت الـ «FDA» بعض التوصيات للأهل لتقليص تعرض الرضع والأطفال لتلك المادة. ومن تلك التوصيات الابتعاد قدر الإمكان عن القوارير والأكواب البلاستيكية وشراء منتجات من الكرتون أو من الزجاج، وتقليل أكل الأغذية المعلبة والإكثار من تناول أغذية طازجة.

* للمشاركة في صفحة «صحة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]