"لك اللحم ولنا العظم". ليس هذا طلباً في أحد المسالخ يتعلق بتحضير أو تعليب المواشي، بل جملة شائعة يقولها الأب للمعلم عندما يأخذ ابنه إلى بدايات العام الدراسي. "أفنيت حياتي لأجل أولادي وعلمهم وتأمين مستقبلهم"، "أولادي هلكوني"، تتكرّر التعابير وغيرها على ألسنة الآباء لإدراكهم أن عليهم تقع مسؤولية نجاح واستقرار وحماية أولادهم في الحياة.
هذه المسؤولية هي واحدة من الأدوار التي أناطها المجتمع بالأب والأبوة وأصبحت معياراً لرجولته وسلطته وقيمته الاجتماعية. لم يأتِ ذلك الدور غب الطلب ولا أتى مشيئةً وقَدَراً. حمل القدر البيولوجي الرجال على صرف طاقتهم في نشر خصائصهم الوراثية أوسع ما أمكن، لا على استهلاكها في الاهتمام بما أنتجته حيواناتهم المنوية وعلاقاتهم الجنسية. كان ذلك في العصور الغابرة، عصور الصيد والمطاردة وتخزين الغذاء. 
تطوّرت الأمور بشكل تدريجي وملحوظ. خرجت المجتمعات عموماً من عهد الآباء "كاسبي الرزق" و"الواعظين" القساة وحماة القيم إلى عهد الآباء الشركاء في الأسرة، المتعاونين مع الأمهات في مختلف أمور الحياة. أصبح هناك الأب المتزوج أو العازب أو زوج الأم أو المثلي، المقيم أو المهاجر وغير ذلك من حالات طور التغيير في أنماطها وأدوارها. أظهرت الدراسات السوسيوبيولوجية والنفسية أن تطور دور الأب الأُسَري والعاطفي الظاهر يساهم في تعزيز النمو العاطفي والاجتماعي للأطفال.
جاءت هذه التغيّرات في أدوار الأبوة على خلفية التقدم الصناعي والتكنولوجي وتمدّد المدني على حساب الريفي وتقدم المؤشرات المتعلقة بالجندر والمرأة وسوق العمل والإنتاج. تحسّنت مداخيل النساء المادية مما خفّف من الاعتماد المطلق أو الجزئي على الأزواج. ومع تحسن استقلالية المرأة تميل معدلات الخصوبة للانخفاض وترتفع معدلات الطلاق والزواجات الثانية والثالثة. يحاول الآباء التأقلم مع كلّ هذه التغيّرات وبعضهم الآخر لا يزال قابعاً في كهوف الصيد ومركبات الرجولة الخشبية.
 ازدادت أعداد الآباء في الشوارع والأرصفة والساحات يدفعون بعربات تحمل أطفالهم أو يحملون ألعاباً ليلهو بها معهم. آباء مع أطفالهم يحملونهم على لأجسادهم يتواعدون في الأماكن العامة ويتحدثون عن خبراتهم في الحضانة والتدبير. لم يعد مستغرباً أن يرافق الزوج زوجته إلى العيادة النسائية وإلى غرف الطلق والولادة. ولم يعد طلب فحوصات مخبرية للحيوانات المنوية إهانة للزوج وتشويهاً لذكوريته. 
ليس عيد الأب للتندر بتلك التغيرات أو الأدوار الأبوية الجديدة، بل هو حسب وثائق مختلفة جاء من احتفاليات القديس يوسف، نوتريتور دوميني، في أوروبا القرون الوسطى. ثم تكرس العيد في بدايات القرن الماضي من وحي عيد الأم وقتها، وتحديداً على ما يروى، عندما فُجعت غرايس كلايتون بمصرع والدها وحوالى مئتين وخمسين أباً آخرين في انهيار منجم، تاركين وراءهم آلاف الأطفال اليتامى. أصبح للأب عيد وأصبح للأب أدوار متعددة.
 في دراسة مهمة للمؤسسة الوطنية لصحة الطفل والنمو الإنساني، ظهر أن الآباء الذين ساهموا في رعاية أطفالهم وفي شؤون عائلاتهم، كانوا يعملون ساعات أقل من الآباء الذين لم يشتركوا في رعاية أطفالهم، كانوا أكثر ثقة بأنفسهم وأقل عدائية، كما وكانت علاقتهم بالزوجة أكثر حميمية، كما أن أطفالهم كانوا غالباً من الذكور. كما تشير دراسة حديثة إلى أن تأثير حبّ الأب على الأطفال كان موازياً لتأثير حبّ الأم. وأكثر من ذلك، ساعد حبّ الأب الأطفال في تنمية قدراتهم العاطفية والإدراكية وإحساسهم بقيمتهم ووجودهم في الحياة. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن كلما قويت علاقة الأب بأطفاله كلما تدنّى هرمون التستوستيرون الذكوري وارتفع هرمون البرولاكتين "الحميمي"، مخفّفاً على الأرجح من مخاطر انخراط الآباء في علاقات جنسية موازية. 
لا تزال أدوار الأبوة تتأرجح بين قطبين: الأب الغائب والأب الحاضر، الأب المموّل أو الأب المربي. بين الستينيات والتسعينيات زاد معدّل تدخل الأب الإيجابي في أسرته حوالى سبعين بالمئة لجهة قضاء وقت مع الأولاد وفي التربية والتدريس. كان هذا الاتجاه للآباء بارزاً في عدة مناطق من العالم بينها الشرق الأوسط. لا بّد من إعادة صياغة لمفهوم الأبوة، ليس على قياس مقال بعض الفلاسفة عن قتل الأب واستحضار أب آخر وهذا ليس مجالنا، بل على ضوء التطورات العلمية والطبية والاجتماعية والإنسانية بما يخدم الأولاد والأسرة والمجتمع. 
تشير دراسات علم التطور، أن من أكبر التحديات التي يواجهها الرجل هو التأكد الدائم من أبوته البيولوجية لأولاده. وما وجود أحزمة العفة في متاحف العلوم الجنسية إلا خير دليل على ذلك الرعب الكامن في لا وعي الرجال. على الطرف الآخر، تزدهر عمليات وهب الحيوانات المنوية في العديد من البلدان وتنمو معها عمليات وهب البويضات والأرحام المستأجرة والآباء غير البيولوجيين والتبني وتنوعات أخرى لا حصر لها تعيد تشكيل معاني الأبوة والأمومة ومفاهيمها. 
عيد الأب مناسبة لا بدّ منها تُذكر الجميع بتاريخ غني من تطور مفاهيم الرجولة والأبوة والعائلة، من مجرّد تنافس ملايين الحيوانات المنوية لتلقيح ما أمكن من بويضات، إلى التنبه للتغيرات الحاصلة ومواكبتها من قبل الآباء الحاليين والمستقبليين. الأبوة كالسياسة لا التسلط يبني ولا التفلت، وكل عام والآباء أكثر أمومة.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحّة جنسية