يتمدّد سرطان الليطاني من بلدة إلى أخرى. فحيثما يمرّ، يحمل معه "خلاياه" السرطانية ويكمل طريقه، مخلّفاً وراءه موتاً مجانياً. بعد صرخة بر الياس التي يطال "هيداك المرض" فيها 600 إنسان، تأتي الصرخة اليوم من الجهة المقابلة: من حوش الرافقة، التي انتهت لتوّها من دفن "شهيدها" الجديد الذي سقط بضربة مرضٍ قاتل، ودولة تمعن هي الأخرى في مجاراة هذا المرض بإهمالها المقصود.
قبل بضعة أشهر، صدرت نتائج دراسة قامت بها الجامعة الأميركية في بيروت حول تلوث الليطاني والأوضاع الصحية للمواطنين الساكنين على مقربة منه. حينذاك، وثقت الدراسة 19 موتاً سرطانياً، سبّبه تلوث الليطاني. اليوم، يسجّل العداد أرقاماً إضافية لجنازات غالبيتها لشبابٍ في مقتبل عمرهم. يُقال بأن الرقم اليوم 24، فيما البقية من المصابين يصارعون مرضهم. وفي آخر الإحصاءات، تشير بلدية "الحوش" الى أنه خلال السنتين الأخيرتين حتى الآن، سجّلت 85 حالة سرطانية، على أن معظم الذين أصيبوا ويصابون بها هم من جيران النهر. وتخفّ هذه النسبة، كلما بعدت تلك الجيرة. ففي الأحياء الداخلية، نسبة الإصابة بالسرطان هي أقل من النسبة التي تسجّل بين القاطنين على ضفاف النهر. مع ذلك، صار السرطان سمة لازمة لتلك البلدات وغيرها من جيران النهر. يموتون بصمت، وعلى عين الدولة التي تكتفي بطلب المساعدات لحلّ أزمة النهر القاتل. وهي التي استطاعت أن ترتّب على مواطنيها ديناً يقدّر بـ 800 مليون دولار أميركي، كبدل كلفة لمعالجة تلوث الليطاني. ولكن، أين هي هذه الأموال؟ يسأل الممسوسون بالموت من دون الحصول على إجابة. ففي ظل إهمال الدولة ولامبالاتها بصحة مواطنيها، استغل الكثيرون تلوث النهر ــ الذي كان حتى الأمس القريب يروي السهول هناك ــ ليزيدوا من قذارته ورائحته الكريهة. وليس أدلّ على ذلك، سوى النفايات التي تختلط بالمياه الآسنة الآتية هي الأخرى من تحويل مجاري الصرف الصحي إلى النهر. وما يزيد الطين بلّة نفايات المعامل هناك، ومنها النموذج الفاقع الذي يشكو منه الأهالي من دون جدوى: معمل الألبان في عقر الأحياء السكنية والذي تصب مياه مجاريه في النهر، إضافة إلى "فضلات" الأبقار في مزارعه. وهي التي تقتل الساكنين هناك من الرائحة الكريهة. مع ذلك، لم توفر تلك الكارثة البيئية شيئاً، فقد تسربت المياه الآسنة والممتلئة بالخلايا السرطانية إلى مياه الآبار الجوفية، التي لم تعد صالحة حتى للخدمة أو للري، ما دفع بالأهالي للجوء إلى شراء المياه بـ"النقلة".
أمام هذا الواقع المأسوي، لا يجد أهالي "الحوش" بداً من البحث عن حياة في مكان آخر. ففي ظل تفرّج الدولة على موتهم، اضطر الكثير من الأهالي هناك إلى اللجوء إلى مناطق أخرى بعيدة عن النهر. هكذا، تركوا بيوتهم لليطاني وفروا يستأجرون في أي مكانٍ يقيهم من الموت مجاناً بالسرطان، ولو كلفهم الأمر جلّ لقمة عيشهم.
(الأخبار)