ما اندلعت حرب أو شبّ نزاع أو زُلزِلت أرض، إلا وسقط ضحايا وعمّ دمار في أمن الناس ومأكلهم ونسيجهم الاجتماعي. غالباً، ما تكون النساء والأطفال أكثر الضحايا وأكثر المعانين والمعرّضين للأخطار. هكذا، هي الحال في الأزمة السورية المستمرّة والمتفاقمة. لم يحدث قط في التاريخ الحديث أن هُجّر نصف سكان بلد، وأن استقبل بلد مجاور أعداد نازحين تقارب نصف سكانه.
تشير تقارير الهيئة العليا لشؤون اللاجئين إلى وجود ما يقارب مليون و100 ألف نازح، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال ويتوزّعون على مئات البقع السكنية في لبنان (2125 نقطة سكنية). مع ذلك، لم يجرِ وضع سياسات أو استراتيجيات واضحة وعلى كل المستويات من قبل الحكومة اللبنانية للتعاطي والتعامل مع أزمة أكبر من حجم البلد. تداخل السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي بالصحي، وتحرّكت القطاعات الحكومية وهيئات المجتمع الأهلي للقيام بما أمكن وبموارد محدودة تجاه أزمة تفوق التوقّعات. لم يستوعب الناس مفاصل الأزمة المتشابكة ولم تساعد الحكومة في ذلك أيضاً. بدأ الكلام همساً ليصبح مباحاً عن الإرهاصات المادية والسكانية والتربوية. كل ذلك على خلفية استنزاف هائل للبنى التحتية تمويل دولي لا يرقى إلى مستوى الاحتياجات.
كما في السلم، كذلك في الحرب، تستقطب المسألة الصحية مجمل الاهتمامات، وخاصة صحة الأطفال والنساء. هرعت المنظمات الدولية ووزارة الصحة والجمعيات لمدّ يد العون خصوصاً في موضوع الحمل والولادة واللقاحات ومشاكل الأطفال الجادة. عادة، تؤدي النزاعات إلى رفع معدلات الخصوبة نتيجة ازدياد عدم الأمان الاجتماعي وانقطاع خدمات الصحة الإنجابية وتدني تثقيف النساء. كما تزيد الحروب في تدهور البنى التحتية الصحية، ما يرفع مخاطر الوفاة المرتبطة بالحمل والولادة. وقد بيّنت مجموعة من الدراسات العالمية حدوث ثلاثة اتجاهات مقلقة تتعلق بصحة النساء خلال الحروب: أولها ارتفاع معدل الخصوبة الخام في البلاد ذات الدخل المحدود وثانيها ارتفاع معدل وفيات الأمهات في البلاد التي تعاني من النزاعات (وهذا ما يظهر في التقارير عن سوريا عن بدء ارتفاع معدلات وفيات الامهات عن عام 2014 ـ 2015) أما ثالثهما، فيشير إلى تدني وفيات الأمهات أو استقرارها في البلدان المجاورة للنزاع والمستقبلة للنازحين. ينطبق الاتّجاه الثالث على لبنان، حيث لم يحدث أي ارتفاع لوفيات الأمهات النازحات أو المقيمات، خلافاً لتوقّعات البعض. يرجع ذلك إلى تكثيف جهود الإغاثة والتمويل تجاه أزمة النزوح وإلى فعالية النظام الصحي اللبناني وقدرته الاستيعابية وانتشاره على مجمل الأراضي اللبنانية قريباً من تواجد النازحات والنازحين.
غابت المقاربة الشمولية الصحية المتكاملة عن مسألة النازحين، كما غاب التفهّم العميق لخصائصهم والتعاطي مع تشعبات القضية الصحية والسكانية بالجدية المطلوبة. يأتي النازحون من مجتمعات ذات خصوبة عالية نسبياً، حيث يتجاوز معدل الولادات للأسرة الثلاثة وأكثر، وحيث يلد ما يقارب الثلاثة لكل ألف من النازحين. لم يستوعب المعنيون هذه المؤشرات وباتت المبالغة بأعداد المواليد المتزايدة وأخطارها الديمغرافية تنتشر في الصالونات وعلى الشاشات وعلى صفحات الجرائد وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي. رافق ذلك كل أنواع الاجتهادات والاتهامات والتوقعات العاجزة عن ملامسة المطلوب والضروري لجهة المقاربة المختلفة، بدل التعاطئ المجتزأ والمحدود.
تغيب الرعاية الصحية الشاملة لكل النازحات الحوامل، حسب إرشادات منظمة الصحة العالمية وتغيب معها سياسة جدية لتنظيم الأسرة والمباعدة بين الولادات بما يساهم في تعزيز صحة الأم النازحة وأطفالها. تزداد أعداد النازحات الحوامل اللواتي ينقطعن عن متابعة الحمل لدواعٍ مادية أو تتعلق بالوصول إلى المركز الصحي أو التعامل معهن بازدراء. يعني ذلك تدني القدرة على تقصي مشاكل الحمل وتفاديها والتعامل معها لتخفيف مخاطر الموت والمراضة. يرتفع أيضاً منسوب التوتر عند المجتمع المضيف نتيجة عجزه عن حصول ما يحصل عليه مجتمع النازحين في بعض نواحي الخدمة الصحية. لامس عدد المواليد غير اللبنانيين لعام 2016، اثنين وأربعين ألفاً مقابل تسعة وستين ألفاً للبنانيين، بحسب وزارة الصحة اللبنانية. العدد سيزداد بحكم واقع المؤشرات السكانية وازدياد الأعباء الصحية واستمرار الأزمة في سوريا ليصل حسب التوقعات إلى خمسين ألف ولادة سنوياً، ترتفع معها معدلات الوفيات ولو بنسبة ضئيلة نتيجة الذهاب إلى التوليد في غياب إشراف طبي جيد، وهروباً من أكلاف لم تعد تغطيتها ممكنة. تجهد وزارة الصحة من خلال اللجنة الوطنية للأمومة الآمنة والمرصد الوطني للوفيات لتعزيز رعاية الحمل والولادة ومتابعة نوعية الخدمات المقدّمة للحوامل لتفادي أي انتكاسة على هذا الصعيد.
قد يرتعد البعض من قراءة هذه الأرقام وقد تعلو خطابات من مختلف الأنواع، لكن ذلك لن يساهم في الجدية المطلوبة للتعامل مع أزمة متعاظمة. لم يتم الحديث بعد عن العناصر الأخرى لصحة النساء، التقصي والوقاية والأمراض المزمنة والسرطانية والصحة النفسية المخفية تحت عباءة الحمل والولادة والتي تخلق أعباء جديدة وإضافية على النظام الصحي وميزانيته. لا بد من إعادة رسم سياسة صحية جديدة ومقاربة مختلفة تكون متكاملة في أساسها، جدية، تستعد للتعامل مع واقع معقد لسنوات طويلة قادمة. هذا ليس بخيار، هذا طريق لا بديل منه، واجب سلوكه.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحّة جنسية