يرتاح الناس، غالباً، للتوصيفات والتصنيفات السائدة بينهم على قاعدة ثنائية، اعتاد عليها الدماغ لعصور قديمة، فكان هناك مثلاً الأبيض والأسود والمرأة والرجل والمؤمن والكافر والمنجب والعاقر... وذلك نتيجة تداخل العوامل الاجتماعية والدينية والثقافية على مرّ التاريخ. لم يألف الناس وجود خيارات بديلة أو متنوعة تجافي الأنماط الشائعة، فعمدوا إلى «شيطنتها» أو وصفها بـ«الشذوذ».
حصل ذلك في السياسة والاجتماع وكذلك في الصحة، فكان المنقذ هنا مستسلم هناك والبطل هناك متآمر في مكان ما وزمنٍ ما. وفي الصحة، كانت الحائضات مريضات وكان رحمهن مصدر الهستيريا، كما كانت العاقرات مسكونات بالجنّ، وكان مصابو البرص يعزلون. وقد شكلت فحوص العذرية الحدّ بين البر والعار، ووُضِع المختلفون جنسياً في قوالب المرض والشذوذ والسقوط الأخلاقي.
هكذا، لم يسلم ملك بريطانيا هنري الثامن من هذه الانطباعات أيضاً، فأصدر في عهده قانون يعاقب المثليين جنسياً بالموت شنقاً. وكان عام 1835 شاهداً على حكاية آخر رجلين معلقين على مشنقتين في تاريخ المملكة المتحدة. توالت أفعال التمييز وجرائم الكراهية ضد خيارات الناس في صحتهم الجنسية، وكان أبرزها ما تعرض له العالم آلان ترتينغ ـ والذي لم يشفع له فكه وتحليله شيفرات الجيش الألماني لصالح بريطانيا ـ فحوكم عام 1952 وخيّر بين السجن أو العلاج الهرموني، فاختار الانتحار. كما عانى كثيرون في غير منطقة من العالم من التهميش والفضيحة والسجن والقتل والإبعاد.
في الوقت نفسه، بدأت تتراكم الأبحاث العلمية والدراسات الرصينة في الطب وعلم الاجتماع والعلم النفسي، مسقطة لوثة المرض والانحراف على المثلية الجنسية وغيرها من الاختلافات التعبيرية. صال علماء أوروبا في القرون الماضية وجالوا بتشخيصات وعلاجات قروسطية لتصحيح ما اعتبروه خللاً هرمونياً أو اضطراباً عقلياً نفسياً يؤدي إلى «الشذوذ». ثم جاء عام 1973 وخلفه عشرون عاماً من المتغيرات الثقافية وحركة الحقوق المدنية وتظاهرات ستون وول، للجمعية الأميركية للطب النفسي، ليحذو حذوها لاحقاً عدد من الجمعيات العلمية ومنها في لبنان. في ستينيات القرن الذي مضى، أذهل العالم الشهير ألفرد كينزي العالم بأبحاثه العلمية جازماً بوجود تعبيرات مثلية خالصة أو مختلطة عند حوالى 37% من الذكور و14% من الإناث. جاءت بعده الباحثة وعالمة النفس ايفلين هوكر لتؤكد عدم وجود مرض نفسي عند المثليين والمثليات جنسياً. أفرد الطب والبحث العلمي حيزاً واسعاً أيضاً للمتحولين جنسياً، وصدرت دراسات قيمة لما أسماه البعض «الجندر الثالث» عن فهمه ومقاربته الطبية العيادية، بحسب ما يريح الأفراد في عقولهم وأجسادهم وحيواتهم، واشتعلت معها حروب «بلاكات حمامات المدارس» وأبطال الرياضة وملكات الجمال وقصة كايتلين على غلاف مجلة «التايم». وخرج الجندر الثالث إلى العلن سياسيين وعارضات أزياء وضباط أمن وفنانات ومشاهير آخرين.
تغيرت المعلومات والفرضيات والتصنيفات ولم يتغير التنميط والتمييز، أقله عند من يختلط عليهم ما يفهمون وما يتفهمون. عندما سُئلت عينة من الأطباء في لبنان عن رأيها بالمثلية الجنسية وعن إدراكها للمثليين في خدمات الرعاية الصحية، رأى أغلبهم أنها «حالة مرضية»، وبحاجة إلى علاج نفسي، بينما قلّة منهم تماهت مع التعريفات الطبية المتجددة، راغبة بالحصول على معلومات وإرشادات أكثر.
يستدرج التنميط من قبل مقدم الرعاية تمييزاً في تقديم الخدمة الصحية تطال أكثر ما تطال الصحة الجنسية والجنسانية. يستمر التمييز في الرعاية الصحية تحت عناوين متعددة ويستمر معها جهد مميز لمكافحته عبر مراكز صحية متميزة ومنتشرة وعبر نشاطات متلاحقة، كان آخرها مؤتمر لمكافحة التمييز في الرعاية الصحية في الجامعة الأميركية في بيروت. لكن، لا يكفي ذلك لإصلاح رتوق ـ وما أكثرها ـ في الفهم الأساسي لمنظومة الحقوق الصحية وتطبيقها فعلاً في قناعاتنا ومقارباتنا للمساواة في تقديم الخدمة الصحية، سواء وافقنا على ما نشاهد أم لم نوافق. ثم يأتي من يسأل «بتعرف شي طبيب نفسي يعالج الشباب الناعمين؟» أو «أكيد في شي غلط بهالحالات لأنهم عكس الطبيعة».
العلاج يكون بعدم التمييز على أساس لون أو دين أو مرض أو إعاقة أو تنوع جنسي أو ثقافي أو سياسي. والعدالة الصحية تقضي بتقديم الخدمة لمن يحتاج إليها، لا أن نفصّلها على قياس ما نشتهي وبما نستفيد. وعكس الطبيعي يكون بمحاسبة السياسي على عقيدته لا على أدائه كمواطن أو كفرد. لن يكون العالم مكاناً صالحاً للعيش فيه، إذا لم تقبل المختلف عنك، رغم الخلافات والإشكالات معه، ولا تستقيم بذلك ثقافة الإلغاء أو النكران ولا ثقافة إلغاء المختلف وتقزيمه. ولنا في لبنان من ذلك عبرة ودروس.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحّة جنسية