تتعدّد أوجه الصراعات بين الدول وحتى ضمن الدولة الواحدة أو ما بين الأفراد بمختلف علاقاتهم (ومنها الزوجية والعاطفية)، وتُستعمل لذلك أساليب مختلفة وأدوات حربية ونفسية واقتصادية وشخصية، بما فيها العنف الجنسي. خلال الحرب العالمية الثانية، اتُهِمت جيوش الحلفاء وجيوش المحور بارتكاب عمليات اغتصاب جماعي ضد نساء المناطق المحتلة والشعوب المهزومة.
وكانت مذبحة «نانجينغ» أفظع شاهد على ما قام به الجيش الياباني حينها من ذبح واغتصاب مئات الآلاف من نساء الصين. شكّل الحلفاء المنتصرون يومها محكمتين ـ في طوكيو ونورمبرغ ـ للنظر في جرائم الحرب العالمية. لم يُعتبر العنف الجنسي ولا جولات الاغتصاب من قوائم جرائم الحرب في رأي المحكمتين، بل حالات «محزنة» خارج السيطرة.
بعد ذلك بحوالى نصف قرن، وتحديداً خلال التسعينيات، سجّلت الهيئات الدولية المختصّة ما يقرب من 550 ألف حالة اغتصاب حدثت في النزاعات التي حصلت في أفريقيا والبلقان. واليوم، تستمر حكايا ضحايا الاغتصاب كلما سقطت بلدة هنا أو مدينة هناك، ليبقى حجم المأساة الحقيقي بعيداً عن سجلات منظمات حقوق الإنسان.
يعود استعمال العنف الجنسي كسلاح في ترسانة الحروب إلى عهود قديمة تمتد إلى صفحات إلياذة هوميروس وشهادات النبي زكريا في العهد القديم وكتابات مؤرخي روما إلى أهوال جنكيزخان حتى يومياتنا «الداعشية» المستمرة. الهدف تدمير المهزوم في معنوياته وأساس قيمه ومعتقداته وثقته بنفسه عن طريق هتك العرض وتمزيق نسيج الأُسر وانهيارها دون رجعة، ليتم إخضاعه ذليلاً مختبئاً من الفضيحة ولا قدرة له على المقاومة، أو حتى التفكير فيها. 
تتماثل خلفيات وأهداف العنف الجنسي بين المتسلط والضعيف، بين الذي «لا يُقهر» والمغلوب على أمره، ويتشابه الضحايا في حقول القتل، كما على عتبات المنازل وخلف الجدران. حكايا نساء وفتيات يسجّلن ضحايا لا لشيء إلا لأنهن «الفتنة» و«الغواية» والضعيفات المعاقبات والمهزومات بالتعنيف الجنسي والإكراه لجعلهنّ طائعات مسالمات، وحتى ساعيات لتنفيذ رغبات الزوج ـ لدرجة تزويجه بأخرى ـ كما شاهدنا في أحد الأفلام اللبنانية حديثاً. وكما في الأفلام كذلك في الواقع، تُعنّف النساء جنسياً «شرعاً» تحت سقف الزواج أو «سِفاحاً» تحت عهد القربى ليبقى العنف الجنسي أداة المأزومين والمتسلطين زوراً من غير وجه حق في مجتمعات اختارت الصمت والخنوع. كما ويتشابه المعتدون في تكتيكاتهم في التغرير أو المسايرة أو الترهيب.
«يا حكيم المجتمع بيكسر المرأة»، «المجتمع ما بيرحم المرأة المعنفة ولا بيحميها». هذا لسان حال كثيرات. مع ذلك، ثمة بعض في المجتمع لم يصمت. فقد ناضل المجتمع المدني في لبنان وكان ـ بعد جهد جهيد ـ قانون حماية المرأة من العنف، على أمل أن يتبعه قانون يمنع تزويج المُعنّفَة للمعتدي ويمنع تزويج القاصرات. وتحرك العالم أيضاً من معاهدة لاهاي إلى مواثيق جنيڤ ليُجرّم ارتكابات الأفراد والجيوش بعد ما كانت تُعتبر من عوارض الحروب أو من مشاكل الزواج العابرة لتنتقل إلى المحاكم والمقاضاة. 
سيشهد اجتماع مجلس الأمن في الخامس عشر من الجاري وستشهد اجتماعات الجمعية العمومية للصحة في أيار المقبل مناقشات تهدف إلى تنفيذ الآليات الموجودة والمتعلقة بالعنف الجنسي والاغتصاب خلال الحروب وما ترتكبه الجماعات المسلحة، وستكون الدول مدعوة إلى صوغ برامج فعالة بإشراك النساء والضحايا باتجاه قوانين صارمة لمنع العنف الجنسي، ولإيجاد خدمات تتيح للضحايا الوصول إلى الرعاية والحماية وملاحقة المعتدين.
السلام ثقافة والعنف ثقافة والتربية الجنسية ثقافة، وكلها تحدد سمات المجتمع ومستقبله. لا يمكن لنا أن نحلم بمستقبل مشرف في ظل مجتمع تُعنّف نساؤه دون محاسبة ويستعمل «الجنس» كأداة للإكراه والتسلط مكان المحبة والتودد.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحّة جنسية