بدر الحاج *لست هنا في معرض مراجعة شاملة لكتاب فؤاد بطرس الذي اختار له عنوان المذكرات، بل أسعى إلى تصويب وقائع تاريخية معيّنة ومحددة حفاظاً على الذاكرة وتوضيحاً لأمور ذكرها بطرس مخالفة للواقع. لست أدري عندما ابتدأت بقراءة كتاب فؤاد بطرس لماذا تراءى لي اسم شارل مالك. لم يكن السبب أنهما أرثوذكسيان، وليس لأنهما جزء من منظومة مثقفي «الأرثوذكس» الذين ارتبط ولاؤهم بالرهبنة المارونية والكثلكة العالمية، وليس لأنهما أخذا مواقع تعدّ رفيعة ولكون حيثية الأول «فيلسوفاً» والثاني «رجل دولة»، وبالتأكيد ليسا. بل أكاد أجزم بأن السبب الأساسي هو مشاركتهما في دوامة العنف والدم مشاركة مباشرة في الوقت الذي ادّعيا فيه بأن أيديهما نظيفة. مالك بعضويته في الجبهة اللبنانية، وبطرس بوصفه أولاً وزيراً للعدل ووزير داخلية بالوكالة في فترة الإمارة الشهابية المعقود لواؤها للرئيس الزاهد في كل شيء فؤاد شهاب. وثانياً خلال التحضير للاجتياح الإسرائيلي والنضال المستميت مع سيده الشهابي الجديد الورع إلياس سركيس وجلّاده جوني عبده لانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية. المطلوب إذاً أن ننسى الوقائع الدامغة حول سطحية وعنصرية مالك، وأن نسبغ عليه لقب «الفيلسوف» «وواضع شرعة حقوق الإنسان»، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الثاني ومحاولته تبييض صفحة الفترة الشهابية على أساس أنه «رجل دولة».
إنني على يقين بأن هناك توأمة بين مالك وبطرس، أحدهما شمعوني والآخر شهابي، لكنهما وجهان لعملة واحدة سواء في دعوة الأول المارينز إلى شواطئ بيروت سنة 1958، أو في ترحيب الثاني «باللبناني الأصيل» فيليب حبيب ــ الذي يحرص فؤاد بطرس على أجداده المسيحيين ــ الذي أنجز أمرين، كما قال بطرس: ترحيل منظمة التحرير الفلسطينية عن بيروت أولاً، والثاني تعيين بشير رئيساً. يشترك هذان الرجلان في أمر آخر وهو اعترافهما بأن الأزمة في لبنان هي أزمة كيان ووطن لا أزمة سياسة.
وهذا هو عين الصواب. لكن، ولكي لا نظلمهما، نقول إنها أزمة وطن غير موجود وكيان قد تجاوز فترة صلاحيته. ووفقاً لهما، المشكلة الكبرى أن في لبنان مسلمين سنّة في الخمسينات والستينات مزعجون، وفي السبعينات شيعة وسنة ومسيحيين ودروزاً ويساراً عالمياً، والآن هناك شيعة وعونيون مخرّبون، والمشاكل تتناسل، فما العمل؟
هنا أستذكر ما رواه لي عن شارل مالك، الصديق الراحل الدكتور يوسف ايبش في سهرة في منزله في لندن.
كان مالك زميلاً لايبش في التدريس في الجامعة الأميركية في بيروت. لبّى ايبش دعوة مالك للعشاء في منزله في الرابية مع زميلين أميركيين كانا في زيارة أكاديمية إلى بيروت. يقول ايبش: خلال العشاء ضرب مالك بيده على الطاولة وصاح موجهاً كلامه بالإنكليزية إليّ قائلاً «ماذا تعني لك هذه اللوحة يا يوسف؟» وكان مالك يشير إلى لوحة معلقة على حائط غرفة الطعام تمثل ثوراً مدمى في حلبة مصارعة الثيران والفارس الإسباني يمعن في تسديد النصال إلى جسده. فكان جواب الايبش «الحقيقة أنني أمقت هذا المشهد ولا أستسيغ عذاب الحيوان من أجل إسعاد الجماهير المهتاجة لمنظر الدم». وكان جواب مالك مفاجأة لزواره حين قال «كنت أتوقع أن لا تفهم المعنى، باختصار الثور الهائج يمثل المسلم المحتل لإسبانيا والفارس هو الإسباني الواعي المصمم الذي يحكم عقله ويسدد ضرباته لعدوه، والنتيجة كانت انتصار المسيحية».
ساد الوجوم على وجوه الزوار الثلاثة وتدخّل أحد الأميركيين محاولاً ترطيب الأجواء وتغيير الحديث. هذا هو شارل مالك الذي يتحدثون عنه في بلد الأوهام والخرافات بأنه فيلسوف، وواضع «شرعة حقوق الإنسان»، ولا دليل على الادعائيين اللهم سوى إنجازاته وكتاباته في الحرب الأهلية اللبنانية وعضويته القيادية في الجبهة اللبنانية ودعواته العنصرية المريضة.
أذكر شارل مالك هذا، لأعرّج على زميله وزير العدل ونائب وزير الداخلية في عهد القديس الزاهد، الكاره للسلطة والتسلط، أعني الأمير فؤاد شهاب.
وها هو بطرس يتناغم مع خصمه الشمعوني سابقاً الحليف في النظام فيستخدم تعابير في كتابه مثل «الشارع الإسلامي»، و«قوى اليسار» بينما يبدو حريصاً جداً على أن يذكر التشكيلات المسيحية اليمينية المذهبية الفاشية بأسمائها، الكتائب، القوات، ولعل تجسيد الهفوات الفرويدية واضح جداً عندما توضع الأمور على المحك في مسألة إعفاء ضباط الجيش خلال الحرب الأهلية الذين اعتبرهم بطرس متمردين لتضامنهم مع القوى اللبنانية المتحالفة مع الفلسطينيين. هنا ينزع بطرس قناعه فينتقد بحدة غير مألوفة رئيس الحكومة سليم الحص ويتحول لابس القفازات الحريرية، «الوديع»، «رجل الدولة»، إلى شخص آخر، ويذوب الثلج... وتظهر الحقيقة.
لست هنا في مجال الدفاع عن الحص. ويبدو أن النظام اللبناني لا يعمل إلا إذا توافر رئيس وزراء مطيع لرئيسه، كما كانت العادة قبل الطائف، أو رئيس وزراء يخالف رئيسه، كما رأينا بعد الطائف. المهم هنا ما يقوله بطرس عن الضباط المتمردين، والضباط المتماهين مع الجبهة اللبنانية وإسرائيل. بالعبارة الواضحة ضباط الجبهة اللبنانية «يدافعون عن أرض أجدادهم»، وكأن الضباط اللبنانيين المتعاونين مع القوى المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية ــ إذا تكرم وزير العدل وأغدق عليهم الجنسية اللبنانية ــ لا أجداد لهم في هذه الأرض. هذا في علم السياسة اللبنانية لا يسمى عنصرية أو مذهبية، بل تذاكياً. الواقع أن بطرس يعبر عن لبنانه الذي انتهى، لبنان ضباطه سعد حداد وأنطوان لحد وجوني عبده و... هنا يظهر وجه بطرس الحقيقي في المرآة. أما عن انقلاب القوميين الذي خصص له بطرس فصلاً مستقلاً، فيعترف فيه بأن السجون امتلأت بعشرات الآلاف من المعتقلين. جيد هذا الاعتراف، وهو العارف كيف امتلأت ثُكن الفياضية، الحلو، الأمير بشير بضيوف رئيسه الأمير، وكذلك المدينة الرياضية، وسجن الرمل الذي فتحت قواويشه الواقعة تحت الأرض لاستقبال الضيوف.
لكن ترافق هذا الاعتراف مع قوله، «حصلت بعض التجاوزات»، «وحُكي عن تعذيب»، «والأمور ضخّمت»، لكن المهم بالنسبة إلى بطرس أن يعلم الجميع أن الرئيس الملهم فؤاد شهاب كان مصرّاً على تنفيذ القانون. «ويوضح» صاحب «المذكرات» وهو في خريف عمره: «إن التجاوزات لم تكن ضد المواطنين»! لكن ما أخفاه وزير العدل من جرائم لا تجاوزات كان حسب معتقداته ضد «الأجانب» وهم الفلسطينيون والسوريون الذين شاركوا في المحاولة الانقلابية.
باختصار، لوزير العدل نقول، إن لائحة الضحايا «الأجانب» طويلة وهم ثلاثون إنساناً لهم أسر وأقارب. إنهم بشر، يا وزير العدل. إننا نعتقد بأنه كان على علم كيف فقد الفلسطيني عبد الرسول أبو خليل بصره نتيجة التعذيب، وكذلك كيف تمت تصفية الفلسطيني علي الخطيب ثم أذيع بيان عن قتله أثناء ملاحقته، وكيف قتل الفلسطيني سعيد حماد في ثكنة الحلو. ولا نريد أن نذكّر وزير العدل كيف جرت تصفية الفلسطيني محمد قبلاوي، ولا الإخوة من جبل العرب فوزي ورشراش، وسليمان أبو فخر ودفنهم في صحراء الشويفات ولم تظهر جثثهم حتى الآن. لكن نود أن نسمع رأي وزير العدل المحترم بعد كل هذه السنوات ـــــ وعفا الله عما مضى ــــ ماذا جرى لمسلط أبو فخر وابن عمه عادل اللذين اختفيا بعد اعتقالهما في الفياضية ولا يزالان ضائعين... لعله يجدهما لنا عند الاستخبارات السورية. هل يتذكر «رجل الدولة» كيف رفع ريمون إده في مجلس النواب قميص رضا كبريت المليئة ببقع الدم واللحم من إنتاج المغفور له ــــ أطال الله بعمر الوزير ــــ الجلاد الأكبر أبو أحمد الرقيب أنطون عازوري؟ هل يعلم الوزير كيف رُمي رئيس الحزب عبد الله سعاده، على وقع قهقهة أنطون سعد، من على درج وزارة الدفاع حيث حُطمت سلسلة ظهره، وظل يعاني من الكسور رغم العديد من العمليات الجراحية التي أجريت له حتى وفاته؟
لا نريد أن نذكّر الوزير العادل بأسماء جميع الذين جرت تصفيتهم، جلّ من لا يخطئ أو يجرم يا وزير. أريد أن أزعج خاطره بذكر آخر اسم وهو الضابط محمود نعمه، الذي التبست طائفته على جلّاده العازوري فاعتقد أنه مسلم بينما هو أرثوذكسي من مشتى الحلو في وادي النصارى، وبما أنك أرثوذكسي فربما يهمك هذا الأمر. لكن للأسف كان «أجنبياً».
هل أخبرك العازوري كيف حوّل جسد «الأرثوذكسي الضال» إلى كتلة من عظام ولحم في زاوية إحدى غرف ثكنة الأمير بشير؟ هل تذكر بيان دولة العدل والمؤسسات الذي صدر بعد قتل نعمه معلناً أنه قتل وهو يحاول الفرار! هل تريد المزيد من أسماء ضحاياك؟
هنا لنا عتب على الوزير، كيف ينسى ذكر صورة الرصاصة داخل الأرزة في العلم اللبناني التي جرت المتاجرة بها، ولم يشر إليها في مذكراته؟ وكيف تناسى زبدة ما تفتقت عنه العبقرية الشهابية بتوزيع منشورات عن الوثائق الخطيرة المصادرة التي تضم العبارة المشهورة المنسوبة إلى القوميين «كل من آمن بالمسيح فهو كافر وكل من آمن بمحمد فهو أكفر، وكل من آمن بلبنان فليس منا». لا بأس، الرجل يتسامح معنا، لكن هناك موضوع آخر.
هناك أيضاً الاتهام المستتر والمتذاكي من جانب وزير العدالة بأن المحاولة الانقلابية موّلتْ من الملك حسين. يبدو أن الوزير لا يزال مقتنعاً بعبقرية أجهزته التي صورت كمية من العملات الأجنبية بينها الدولارات والجنيهات الاسترلينية والدينار الأردني ووزعتها على الصحف متهمة الحركة بالعلاقة مع قوى خارج لبنان.
عن التمويل يا وزير العدل نود أن نغرق ببعض التفاصيل المتعلقة بالحقيبة المالية المصادرة من رئيس الحزب الدكتور سعاده التي تسلمها الضابط عبد القادر شهاب عندما جرى توقيف سعاده على حاجز المعاملتين. كان في الحقيبة وفق المحضر 180 ألف ليرة لبنانية فقط، كما تمت مصادرة 7200 ليرة كانت في جيب سعاده حين اقتيد إلى مبنى المحكمة العسكرية.
المبلغ المصادر هو من أربعة مصادر: الأول من الرفيقة سهيلة جديد زوجة الشهيد غسان جديد وكان بالتحديد 56,000 ألف ليرة استدانه منها رئيس الحزب وهو من مدخرات وتعويض جديد، والثاني من قريبه اسكندر حريق الذي توفي بعد أشهر نتيجة الاضطهاد والإذلال الذي تعرض له من جانب عسس أميرك، والمبلغ الباقي كان من أموال رئيس الحزب والميزانية المركزية. لكن يا وزير لماذا تجاهلت فضيحة الأموال والسرقة؟
بعد إنجاز قرار الاتهام ومقابلة المحامين، اطلع الدكتور سعادة لأول مرة على إنجازاتكم في حقل التزوير والتشويه والسرقة. واكتشف نقص كمية الأموال المصادرة فمن أصل 187,200 ليرة اعترفت السلطات بمبلغ 150 ألف ليرة فقط. وأثير موضوع اختفاء الأموال في المحكمة. لكن عذراً، معاذ الله أن يتلوث بالسرقة الرجال الذين يناضلون لإرساء إمارة المؤسسات.
يهمّ بطرس كثيراً، في سعيه الدؤوب للحفاظ على الرموز، أن يُظهر فؤاد شهاب شخصاً مترفعاً، فهو لا يتدخل في القضاء وإن كان قد انزعج من إميل أبو خير الذي يفتخر بطرس بأنه هو من اختاره قاضياً فيصبغ على ذاته وعلى رئيسه شرف نزاهة يستحقها القاضي النزيه إميل أبو خير، لا وزير العدل ولا فؤاد شهاب.
وهو، رغم التجاوزات (يقول بطرس)، لم تبلغ التجاوزات في عهد شهاب ما بلغته في التسعينات إبّان حقبة الاستخبارات السورية. ولا ندري لماذا لا يقارن ما جرى بمجازر الحرب الأهلية ومجازر الهوتو والتوتسي أو مجازر كمبوديا؟ ولماذا لا يقارن أيضاً بإنجازات مجازر إهدن والسبت الأسود والصفرا؟ أو بممارسات المكتب الثاني في العهد الشهابي ومن ثم إبّان عهد أمين الجميل واختفاء المئات؟
أما عن حقبة التسعينات، فحسب معلوماتنا، وليس دفاعاً عن ممارسات الاستخبارات السورية (وهذا حديث يطول)، فإنّ أبرز المعتقلين قاتل رئيس وزرائك الشهابي رشيد كرامي لم يُقتل، كما حصل لمحمود نعمه ورفاقه وهو اليوم يقود إلى جانبك رغم تقاعدك مسيرة الحرية والسيادة والاستقلال.
ولعل المفارقة الكبرى في أن عهد بناء المؤسسات الذي أنتج شارل حلو واتفاق القاهرة تمهيداً للحرب الأهلية يستطيع أن يفتخر بإنجازات ابنه البار الياس سركيس الذي تقول إن علة وجوده في أيامه الأخيرة كانت السعي بكل الوسائل لوصول بشير الجميل إلى الرئاسة، كل هذا طبعاً للحفاظ على الدولة والمؤسسات فإذا بشهاب وشمعون والجميل موحدون متناسون صراعات «النهج» و«الحلف الثلاثي».
* كاتب لبناني