عصام نعمان *اتهم الملك الأردني عبد الله الثاني إيران بأنها «خطفت القضية الفلسطينية»، وبأنها « تقوم بدور تخريبي في لبنان». تفوّه الملك بهذا الكلام في لقاء في واشنطن مع عدد من ممثلي المنظمات العربية والإسلامية الأميركية. وكان الملك الأردني قد زار واشنطن بصفته مبعوث الملوك والرؤساء العرب للعاصمة الأميركية من أجل التأكيد على التزامهم «مبادرة السلام العربية» التي اتفق في عمان وزراء الخارجية العرب المكلفون، باستثناء وزير خارجية سوريا، قبل نحو أسبوع على مضمون ما يُفترض أن ينقله الملك عبد الله الثاني في صددها إلى واشنطن.
كان العاهل الأردني إذاً يتكلم باسم العرب أجمعين ما عدا سوريا. إنهم عرب يسمّون أنفسهم «معتدلين» مقارنةً بعرب آخرين، رسميين ومقاومين، يعتبرونهم متطرفين.
صالح بعض العرب «المعتدلون» إسرائيل، ويسعى بعضهم الآخر إلى مصالحتها بطرح «مبادرة السلام العربية». مع أن بنيامين نتنياهو يرفض المبادرة، كما يرفض حل «دولتين لشعبين»، إلّا أن العرب «المعتدلين» يراهنون على أن باراك أوباما سينجح في حمله على القبول بهما.
قبل أي إثبات أو تأكيد بأن نتنياهو سيوافق على «حل الدولتين»، باشر العرب «المعتدلون» سياسة متعددة المسالك تصبّ جميعها في ما يمكن تسميته التكيّف مع ثوابت السياسة الأميركية المتفق عليها بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري. أبرز نقاط هذه السياسة وجوب اعتراف الفلسطينيين (من خلال تنظيماتهم) بإسرائيل ونبذ العنف، واعتبار حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» تنظيمين إرهابيين وبالتالي عدم مفاوضتهما، ومشاطرة إسرائيل موقفها الداعي إلى عدم الرجوع إلى خطوط 4 حزيران 1967 والاستعاضة عن الأراضي العربية المقضومة بأخرى «إسرائيلية» في صحراء النقب، ورفض عودة اللاجئين بل التعويض عليهم وتوطينهم حيث يقيمون. لا يكتفي العرب «المعتدلون» بالموافقة الضمنية على ثوابت السياسة الأميركية بل يحاذرون أيضاً التصدي لإسرائيل في جميع الميادين والمحافل. بعضهم يرفض دعم المقاومة بل يضيّق عليها ولا يتورع أحياناً عن ملاحقة من يغامر بدعمها بالسلاح والعتاد، وبعضهم الآخر يسمح بخجل لبعض الهيئات والجمعيات بأن تدعم المنظمات الإنسانية الفلسطينية بالمال، مشترطاً عدم وصوله بأي شكل من الأشكال إلى المنظمات الإنسانية التابعة لتنظيمات المقاومة كـ «حماس» و«الجهاد الإسلامي».
غير أنّ أخطر أشكال التكيّف مع السياسة الأميركية، وبالتالي الصهيونية، يتجلى في اعتبار إيران، لا إسرائيل، الخطر الأول الذي يواجه العرب في هذه المرحلة.
ويرى العرب «المعتدلون» أن دعم المقاومة، حيث يجب، يجب أن يكون من خلال السلطة الشرعية، مهما كان شكله ومضمونه. وإذا كان الأردن قد اكتفى في الماضي بالقبض على مجاهدين لبنانيين كانوا يحاولون «تهريب» السلاح والعتاد إلى مجاهدي المقاومة في فلسطين عبر نهر الأردن ثم أخلى سبيلهم، فإن حكومة مصر لم تتورع عن القبض على مجاهد لبناني واحد أحد من أعضاء حزب الله ثم اتهمته، فوق «جريمة تهريب السلاح»، بتأليف خلايا للقيام باغتيالات واضطرابات وتحريض ضباط الجيش المصري على الانقلاب!
ثمة ثقافة سائدة بين العرب «المعتدلين» يمكن تسميتها «ثقافة التطبيع» قوامها مصالحة العدو الصهيوني بدعوى أنه الأقوى والأقدر ولا سبيل إلى هزمه بسبب دعمه اللامحدود من طرف أميركا، ومحاصرة قوى المقاومة العربية لأن إصرارها على مقاومة إسرائيل سيجرّها بالضرورة إلى معارضة الحكومات التي صالحتها، وتلك التي لا ترغب في مناوئتها.
إلى ذلك، تنكر ثقافة التطبيع هذه على أي طرف خارجي، مسلماً كان أو غير مسلم، أن يقوم إلى نصرة عرب فلسطين أو دعم مقاومتهم للاحتلال الإسرائيلي. قضية فلسطين، في عرف العرب «المعتدلين»، حكر على الفلسطينيّين وحدهم واستطراداً على العرب الذين يؤيدون منظمة التحرير بما هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، أي عملياً للسلطة المعقودة اللواء للسيد محمود عباس. وإذا ما قام طرف مسلم غير عربي أو غير مسلم وغير عربي بإعلان موقف صريح بتأييد قضية فلسطين أو دعم المقاومة، فإن حكومات العرب «المعتدلين»، ولا سيما الموقّعة منها معاهدة صلح مع إسرائيل، تسارع إلى نعته بأنه مزايد ومتطرف ومستغل، أو تقف منه موقفاً سلبياً أو متفرجاً.
موقف التفرج تجلّى أخيراً في مؤتمر «دوربان ــ 2» الخاص بمناهضة العنصرية عندما ألقى محمود أحمدي نجاد كلمته المنددة بعنصرية إسرائيل ودور الغرب الأوروبي والأميركي في دعم كيانها العنصري الذي اغتصب أرض الفلسطينيّين وشرّدهم تحت كل كوكب. ذلك أن المندوبين العرب في المؤتمر اكتفوا بالتفرج على جلاوزة الصهاينة وهم يحاولون مقاطعة الرئيس الإيراني والتطاول عليه فيما كان ممثلو أوروبا الأطلسية ينسحبون. قليل من المندوبين العرب صفقوا لنجاد، بينما حرص مندوبون من دول أخرى، مسلمين وغير مسلمين، على التصفيق والهتاف له، بل إن بعضهم حاولوا حمله على الأكتاف.
يقول العرب «المعتدلون» إن ايران تحاول اختطاف قضية فلسطين لأغراض مصلحية إيرانية. إذا كان هذا صحيحاً، فهل دفاع أوروبا وأميركا عن الصهيونية هو لوجه الحق والتاريخ؟ وما الفائدة التي يجنيها العرب، حتى «المعتدلون» منهم، من الوقوف موقف المتفرج من صراع الخطاب الإيراني ضد الصهيونية مع الخطاب الأطلسي المؤيد لها؟
صحيح أن الدول والحكومات ليست جمعيات خيرية، وأنها تسعى بوسائل شتى إلى خدمة أغراضها السياسية والاقتصادية والثقافية، ولكن لماذا هذا الحرص من العرب «المعتدلين» على التذكير بهذا الأمر كلما قامت إيران بدعم الفلسطينيين، وتناسيه والوقوف ساكنين عندما يتمظهر في دعم أميركا وأوروبا لإسرائيل.
الحقيقة أن الشبكات الحاكمة في معظم النظم العربية قد أصبحت، بسبب تداخل مصالحها مع أطراف الغرب الأطلسي، جزءاً من ثقافته وأحياناً أداة من أدوات المناهضة السياسية والأمنية والثقافية لعرب المقاومة وحركاتهم المكافحة.
من هنا تستبين الحاجة إلى إدراك هذه الحقيقة والنهوض إلى مواجهتها سياسياً وثقافياً، وإذا اقتضى الأمر أمنياً.
ليس كثيراً على المقاومة العربية، وقد انتصرت ميدانياً في تجربتي العدوان على لبنان 2006 والعدوان على غزة 2008 ــ 2009، أن تضع استراتيجية متطورة لمواجهة إسرائيل وحلفائها الأطلسيين، ولا سيما بعد اندحار أميركا وحليفاتها في العراق وأفغانستان، وقبلهما في لبنان وجزئياً في فلسطين. من ضمن الاستراتيجية المغايرة والمتطورة يقتضي أن تخاطب قوى المقاومة النظم السياسية العربية على أساس أن تختار لنفسها دوراً في واحد من معسكرين: معسكر المواجهة أو معسكر المساندة. الأول يُعنى بالمشاركة القتالية أو الدعم اللوجستي. والثاني يعنى بالدعم السياسي والعون المالي والعمل الثقافي بشتى أنواعه وأشكاله. أما الذي يستنكف عن اختيار أيّ من المعسكرين فإنه يكون حكماً في موقع المتواطئ مع العدو الصهيوني وحلفائه الأطلسيين، الأمر الذي يستوجب مواجهته على هذا الأساس.
لا يُردّ علينا بأن في هذا التصنيف غلوّاً وتطرفاً ذلك أن بعض النظم السياسية العربية صنّفت نفسها من تلقائها في المعسكر الثالث، ووظّفت قدراتها في دور القامع للمقاومة بلا مواربة. أليس من حق قوى المقاومة، والحال هذه، الدفاع عن النفس بكل الوسائل المتاحة؟
إلى أن يصبح هذا الخيار ممكناً فإن نجاد وغيره سيثابرون، بحق، على «اختطاف» قضية فلسطين.

* وزير سابق