عصام نعمان *سئلتُ: كيف تستعيد الطبقة العاملة دورها؟ ظاهر السؤال يشير بوضوح إلى أنها فقدته، وأن المطلوب استعادته. الحقيقة أن العمال فقدوا دورهم كطبقة، لكنهم لم يفقدوا دورهم كأفراد في مجتمع السياسة والاقتصاد والثقافة. لذا فإن استعادة العمال دورهم كجماعة متميزة يستوجب، منطقياً، استعادة الطبقة العاملة وحدتها وكيانها وشخصيتها وقيمها وسلوكيتها ككتلة اجتماعية متميزة. فهل هذا المطلب مطلوب؟ وإذا كان مطلوباً حقاً، فهل يمكن تحقيقه في معزل عن استعادة اليسار دوره؟
لعل المطلب الأنفع والأهم هو أن يستعيد اليسار دوره بما هو التيار الاجتماعي والسياسي الأفعل في حركة النهوض والنهضة.
فقد اليسار دوره لأنه فقد هويته وبوصلته وفعاليته. ذلك أنّ جملة معوّقات وتحديات، قديمة وجديدة، واجهته بعد زرع الكيان الصهيوني بين ظهرانينا، واحتدام الحرب الباردة في عالم ثنائي القطبية، الى انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوء وحدانية قطبية معولمة جسدتها الولايات المتحدة الأميركية، ثم تداعي هيمنتها بفضل حركات المقاومة في عالم الجنوب من جهة واندلاع أزمة مالية واقتصادية عالمية أفقدتها قيادتها السياسية والاقتصادية للعالم من جهة أخرى.
وانعكس نشوء اقتصاد المعرفة وتعاظم مفاعيله على مفهوم العمل، ما يستوجب إعادة تحديد مفهومي العمل والعامل. فالمستخدم في الإعلام والاتصالات والمواصلات والتربية والثقافة هو منتج شأن العامل في الصناعة والزراعة والبناء. ففي كل هذه الحقول، ثمة رأسمال وجهد ذهني أو عضلي وبالتالي فائض قيمة للعمل. يتحصل من ذلك أن ثمة ظاهرة وبالتالي علاقة جدلية قد نشأت بين طرفين: المال والوقت. فصاحب المال يعوزه الوقت، فيشتريه من صاحبه، أي من الطرف الذي يملك وقتاً للبيع، أي للعمل. وعليه، فإن العلاقة بين صاحب المال وصاحب الوقت هي علاقة جدلية يتأتى عنها إنتاج. الأحرى، والحالة هذه، أن يسمّى الطرفان منتجين. كلاهما منخرط في عملية إنتاج بما يملك مـن وسائل. أحدهما يملك مالاً والآخر يملك وقتاً، ولا إمكانية لحصول إنتاج إلا من خلال تنظيم العلاقة الجدلية بين المال والوقت، بما في ذلك تحديد نظام توفير المال وتوفير الوقت، فلا يكون هناك سوء تدبير على نحو يفسد عملية الإنتاج بطريق سوء توزيع الثروة. فالمال ثروة والوقت ثروة والتوازن في توفيرهما وحسن استخدامهما يؤمنان حسن الإنتاج وتأمين العدالة وبالتالي الحياة الكريمة.
بالإضافة إلى ذلك، يمور العالم عموماً والعالم العربي وعالم الجنوب خصوصاً بتحديات وتناقضات ومخاطر شتى. هكذا يجد الأفراد كما الجماعات أنفسهم مضطرين، في آن، إلى مواجهة أكثر من تحدٍّ وتناقض، الأمر الذي يوزع الاهتمام والنشاط والمتابعة. من الطبيعي، والحال هذه، أن ينعكس هذا الواقع على اليساريين واليسار بشتى مدارسه وتلاوينه وتياراته. ولعل أكثر التحديات سلبية بانعكاساتها على اليسار بعد نكبة فلسطين سنة 1948 كان انفصام وحدة مصر وسوريا سنة 1961، وهزيمة العرب سنة 1967، وانهيار الناصرية بعد وفاة قائدها سنة 1970، ومن ثم خروج أنور السادات عليها بتوقيع اتفاقات «كامب دايفيد» والحرب العراقية ـــــ الإيرانية في الثمانينيات، وانتقال الولايات المتحدة إلى الهجوم المباشر على بلدان منطقة غرب آسيا اعتباراً من مطالع التسعينيات، واشتداد هذا الهجوم وتوسعه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ليطال أفغانستان والعراق سنة 2003 ومن ثم لبنان وكالةً على يدي الكيان الصهيوني سنة 2006، وتهديد إيران بدعوى سعيها إلى امتلاك أسلحة نووية.
حيال كل هذه التحديات والمخاطر انقسم اليسار على نفسه وفقد زمام المبادرة. فاليمين موحد دائماً بمصالحه بينما اليسار مشرذم دائماً بكثرة اجتهاداته وتياراته.
كما أن ثورة الاتصالات والمعلوماتية جعلت المسافة حالة ذهنية، فقرّبت بين الأقطار والأسواق والأوساط والأفراد والجماعات وجعلت المعلومات والأفكار والواقعات والأحداث مادةً منزلية يومية. كل ذلك أسهم في نشوء ظاهرة العولمة من حيث هي قدرة الرساميل ومراكز التمويل على غزو مختلف الأسواق بل توحيدها والتأثير فيها على نحو يجعل السلطات أسيرة مراكز التقرير المالي في عالم أضحى «قرية كونية» تهيمن عليها الولايات المتحدة.
في غمرة ثورة الاتصالات والمعلوماتية والعولمة، من حيث هي مرادف للأمركة، احتدم صـراع الثقافات بما هي تعبير، في آن، عن قيم تراثية، وأخرى حداثية، تطلعات مستقبلية، ومصالح اقتصادية واجتماعية، ونوازع أيديولوجية ودينية. وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على اليسار، أفراداً وجماعات، فتتولد حيال ما يثيره من قضايا وتحديات وأفكار وسلوكيات ردود فعل مختلفة في أهدافها ومقارباتها. ولعل أخطر جوانب صراع الثقافات أن الولايات المتحدة، القطب القائد في الغرب الأطلسي، استخدمت ثقافة الغرب، من خلال وسائط ثورة الاتصالات والعولمة، لبسط هيمنتها على العالم عموماً وعلى المنطقة العربية وغرب آسيا خصوصاً. وهو تحد كبير لم يجد اليسار، وقد أضحى ضعيفاً ومشرذماً، سبيلاً إلى مواجهته إلا من خلال التعاون، بحدود، مع القوى الإسلامية الشورية المعادية للهيمنة الأميركية.
وقد واجهت هجمة الهيمنة الأميركية مقاومةً متصاعدة في شتى أنحاء العالم، لعل أقواها وأكثرها قدرة على الصمود والانتشار المقاومات الفلسطينية واللبنانية والعراقية والإسلامية في أفغانستان وباكستان.
والحق أنّ المقاومة في العالم العربي والإسلامي، بل في الجنوب عامة، استفادت من متغيرات متعددة، أبرزها فشل الليبرالية المتوحشة وسقوط الأحادية القطبية من جهة، وصعود إيران كقوة إقليمية مركزية من جهة أخرى.
وأتاحت هذه المتغيرات فرصاً واعدة للتغيّر وبالتالي للتغيير في التفكير والتدبير. غير أن المتغيرات الناشئة عن الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالولايات المتحدة وبالدول الصناعية السبع الكبرى، وبالتالي بسائر اقتصادات دول العالم بنسب متفاوتة، لم تظلّل قضايا مركزية في الحياة العربية، إذ بقيت ثابتة وإن أصبحت، كما يقول بحق رياض صوما (راجع كتابه: فرص التغيير، 2009)، مطروحةً ومتحركة في إطار متغيّر. إنها قضايا فلسطين والوحدة والحريات العامة والديموقراطية والتنمية، مروراً بقضايا العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، والثقافة والإبداع الفني. ذلك أن القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية المهيمنة في عالمنا المعاصر، المتحالفة مع قوى الهيمنة في أميركا وأوروبا، تحول دون إيجاد حلول مجزية لهذه القضايا من شأنها تلبية مصالح الشعوب وتقدمها. السبب؟ لأنها تريد الإبقاء على تخلفها وضعفها لتسهيل إدامة السيطرة على مواردها ومقدراتها، وحماية القواعد الغربية المزروعة في ربوعها وفي مقدمها الكيان الصهيوني.
ما السبيل إلى مواجهة قوى الهيمنة والاستتباع وإلى النهوض إلى تحقيق المشروع الحضاري النهضوي العربي بأهدافه الستة: الوحدة (أو الاتحاد) والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة والاستقلال الوطني والقومي والتجدد الحضاري؟
أرى أننا مدعوون إلى تجاوز حال الانحطاط والتبعية والفساد باعتماد نهج الممانعة والمقاومة وفق الأولويات الآتية:
أولاً، التزام القيم الأخلاقية العليا ومباشرة التجدّد الحضاري في إطار المحافظة على الجوانب الحية في التراث، والانفتاح على الجوانب المضيئة والنافعة في الحداثة وفق معيار موضوعي جوهره إيثار مصلحة المشروع الحضاري النهضوي وتقدمه.
ثانياً، تكامل الأمة في وحدة أو اتحاد لضمان متطلبات البقاء والإنماء وتوفير الشروط السياسية والاقتصادية للتعايش والمنافسة والنجاح في عصر التكتلات القارية. ولعل البدء يكون بإقامة تكتل اقتصادي قومي أو سوق عربية مشتركة، يكون أعلى من كيانات الأقطار المشاركة.
ثالثاً، استكمال الاستقلال الوطني والقومي لضمان حرية إرادة الأمة وتفعيلها. ذلك يكون بسلوك استراتيجيا التحرر والتحرير. التحرر من نير سلطة مستبدة وتحرير الأرض والشعب من نير الاحتلال الأجنبي بالمقاومة الميدانية والمدنية.
رابعاً، النضال من أجل اعتماد الديموقراطية بما هي النظرية والنظام اللذان يعتبران الإنسان قيمة في ذاته وحقه، فرداً وجماعة، في التعبير عن رأيه وفي المشاركة في صنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
خامساً، توأمة التنمية الذاتية والعدالة الاجتماعية وحماية البيئة في إطار المحافظة على موارد الطبيعة وتجديدها، والمحافظة على التنوع الحيوي للكائنات والمخلوقات.
أمام هذه التحديات الخطيرة والمتطلبات الأساسية للنهوض والنهضة، يتوجب على اليساريين واليسار أن يستعيدوا وعيهم وهويتهم وانتماءهم وقضيتهم ودورهم. ذلك كله يتطلب أن يتغيّروا كي يصبح في مقدورهم أن يغيّروا. الانطلاقة تكون دائماً ذاتية، لكن سلوكية العمل يقتضي أن تكون جماعية. فاليساريون واليسار لا يمثّلون في حاضر العرب قوة وازنة بل طليعة فاعلة وموجِهة. من هنا فإن نهوضهم وانخراطهم بقوة في النضال الهادف إلى تحقيق أولويات المشروع الحضاري النهضوي العربي إنما يكونان بالعمل في وسطهم والتعامل مع غيرهم ممن يشاركهم التشخيص المشترك للأزمات التي تعصف بالأمة، ويشاطرهم الرأي في مناهج التصدي وآلياته ومقارباته لمعالجتها في سياق النضال ضد قوى الهيمنة والاستبداد والاحتلال.
أخيراً وليس آخراً، لعلّ في إحياء الصيغة الجبهوية بين القوى الوطنية والديموقراطية واليسارية والإسلامية الشورية السبيل الأقوم والأفعل لتفعيل النضال السياسي والاجتماعي والارتقاء به. هل ثمة بديل؟

* نائب ووزير سابق