عندما قال الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، جملته المعروفة: «مسافة السكة يا افندم»، قاصداً أن بلاده ستهبّ للدفاع عن الخليج إذا تعرّض لأيّ تهديد، قوبل كلامه بسخرية، أقلّه على المستوى الشعبي الخليجي، على اعتبار أن كلّ مَن في الخليج يعرف أن حماية الأنظمة الخليجية تأتي من مكان آخر. لكن ذلك لا يلغي واقع أن النظام المصري شكّل عازلاً أمام تهديد جماعة «الإخوان المسلمين»، بعد عام من حُكم «الإخوان»، تحسّست خلاله تلك الأنظمة رؤوسها، لخوفها من التهديد الكامن الذي مثّلته فروع الجماعة في الدول الخليجية، وظَهر خصوصاً في التحرّكات التي نظّمتْها المعارضة الكويتية، ورأت فيها الحكومات نموذجاً لِما يمكن أن يَحصل عندها لو كانت لديها مساحة سياسية كالموجودة في الكويت.أراد السيسي استمرار العمل بالصيغة التي كانت قائمة بين دول الخليج ومصر أثناء حُكم حسني مبارك، وتقوم على قمْع «الإخوان»، والإسلاميين عموماً، كي لا ينتقل خطرهم إلى الخليج، مقابل تمويل خليجي للنظام المصري. وتَحقّقت هذه المقايضة فعلاً، حين سارع الخليجيون إلى ضخّ المليارات في الاقتصاد المصري لمساعدة القاهرة على القضاء على «الإخوان»، الذين قام السيسي بمحقهم في السنوات التالية لتسلُّمه السلطة عام 2013. لكن مع التراجع الكبير الذي أصاب الجماعة في كلّ مكان تتواجد فيه، صار وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، يعتقد أنه يستطيع تدبُّر أمرها بنفسه محلّياً وخليجياً. وهو فعل ذلك، من خلال حملة أدّت إلى سجن عشرات الدُّعاة من ذوي الميول «الإخوانية» والسلفية، والذين يواجه عدد منهم حالياً احتمال عقوبة الإعدام. وبالتالي، انتفى أو تراجَع مبرّر المساعدات الضخمة التي قدّمتها السعودية وغيرها من دول الخليج إلى مصر، التي تعتمد بشكل كبير على المعونات بسبب أوجه خلل كثيرة ومزمنة في اقتصادها وبنيتها السكّانية، وهي أسباب فاقمها ارتباط البلد كلّياً بالغرب، وتقييده بشروط «معاهدة السلام» مع إسرائيل.
ونتيجة لذلك، صار العبء الذي تمثّله المساعدات المالية للمصريين، على دول الخليج، أكبر من التهديد «الإخواني» المتراجع، ولا سيما أن تلك الدول، والسعودية بالذات، تُواجه مشاكل من النوع الذي تُقدّم مساعدات إلى مصر لحلّه، مِن مِثل مشكلتَي الإسكان والبطالة، في حين أن أسعار النفط الحالية المرتفعة، تكفي فقط لتحقيق تعادُل في ميزانيتها. وحتى إذا تحقّقت فوائض ما، فهي تحتاج إليها للترويج لصورتها التي تلقّت ضربات عديدة، باعتبارها من آخر قلاع الاستبداد في العالم، كما يحصل في الاستثمارات الرياضية التي جسّد الصورةَ الأوضح لها استقدامُ كريستيانو رونالدو وغيره إلى الدوري السعودي لكرة القدم، لقاء مبالغ ضخمة توازي المساعدات التي تُقدَّم إلى دول. وحتى الاستثمارات الخليجية التي يمكن أن تُوظَّف في الدول العربية، انتقل جزء أساسي منها إلى إسرائيل لخدمة العلاقات المستجدّة مع العدو، والتي تتضمّن دوراً للكيان في حماية الأنظمة المُطبِّعة.
انفجار الأزمة حصل على خلفية أمرَين: الأوّل، هو امتناع مصر عن ردّ ودائع خليجية في تواريخ استحقاقها، بل وطلبها مساعدات جديدة تحدّث عنها تقرير لـ»صندوق النقد الدولي»، ودعا الحكومات الخليجية بالاسم إلى تقديمها للقاهرة؛ والثاني، مماطلة مصر في نقْل جزيرتَي تيران وصنافير إلى السيادة السعودية، وهو أمر كان يُراد له أن يكون إحدى ركائز التطبيع السعودي - الإسرائيلي الجاري على قدم وساق في الخفاء، فيما لو قرّر ابن سلمان نقْله إلى العلن. وبنتيجة هذه التراكمات، فإن المؤكّد هو أن التلويح بوقف المساعدات لمصر، سيوجّه ضربة قاسية إلى السيسي في وقت يواجه فيه بالفعل ضغطاً شعبياً نتيجة فشَل السياسات الاقتصادية - التي كان قد وعد بأنها ستُفضي إلى تحسين حياة المصريين -، والذي أدّى إلى خفْض قيمة العملة المحلّية إلى 32 جنيهاً للدولار من نحو 15 قبل أشهر. فهل قرّرت السعودية ومعها بعض الدول الخليجية فعلاً التخلّي عن النظام المصري، أم أن الأمر لا يعدو كونه ضغطاً عليه لإجباره على القيام بإجراءات تُخفّف عنها ذلك العبء؟
الاستهداف السعودي للجيش المصري يطاول السيسي الآتي منه والمستمرّ في الحُكم بقوّته


اللافت أن الهجوم الخليجي الذي يبدو منسَّقاً على مصر، تَركّز على هيمنة الجيش على الاقتصاد، وهو ما يوحي بأن ما يُراد منه هو أكثر من مجرّد ضغط لتعديل السلوك. فالسيسي آتٍ من هذا الجيش، ومستمرّ في الحُكم بقوّته، واستهدافه يشمله شخصياً، ما قد ينبئ برغبة سعودية وخليجية في تغيير شكل العلاقة مع مصر كلّياً، على نحْو لا يستثني الجاليات المصرية في دول الخليج، والتي يفوق تعداد أفرادها مجتمعة الثمانية ملايين، وبات كُثر في تلك الدول يتململون منها، خاصة في ظلّ ارتفاع مستويات البطالة المحلّية، وتصاعُد المساعي لتوطين الوظائف، والذي كان بدأ الحديث عنه منذ سنين طويلة. الأهمّ من ما تَقدّم، هو أن قوّة فروع «الإخوان» والسلفيين في الخليج، ترتبط بشكل أو آخر، بتواجد الجاليات المصرية التي هيمنت تاريخياً على قطاعات كاملة في هذه المنطقة، منها قطاع التربية وأسلاك القضاء وغيرها. كما أن فكّ الارتباط مع مصر فكرة تتردّد منذ زمن، في محاولة لإغلاق الباب على المشاكل التي يمكن أن تُسبّبها كثرة المصريين، وفي الوقت نفسه إتاحة الفرصة للشبّان الوافدين إلى سوق العمل لاحتلال مكانهم.
أمّا الكلام المصري عن أفضال مصر في حرب تحرير الكويت والمساهمة في بناء الدول الخليجية، فهو لا يساوي الكثير عند الخليجيين، باعتبار أنه مدفوع الأجر أصلاً، ولا يبرّر على أيّ حال استمرار المساعدات على حالها إلى الأبد، فضلاً عن أن كثيرين في الخليج لا يحبّون السيسي، وكانوا لَيرغبون في أن تُصرف المساعدات في قنوات أخرى مِن مِثل دعم المعارضة السورية المسلّحة، التي جُمعت لها الأموال، وتجنّدت أعداد للقتال معها. وبدأ ظهور الأزمة بين السعودية ومصر، والتي تتدحرج منذ مدّة، إلى العلن في 18 كانون الثاني الماضي، حين كشف وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، في «منتدى دافوس»، أن المملكة غيّرت شكل المساعدات لحلفائها من تقديم مِنح مباشرة وودائع من دون شروط، إلى ربْطها برؤية «إصلاحات». وبدا ذلك استهدافاً لمصر خصوصاً - على رغم نفي الوزير هذا التأويل -، خصوصاً أن كلامه جاء بعد أيام على مشاركة السيسي في القمّة السداسية في أبو ظبي، والتي جمعت أربعاً من دول «مجلس التعاون الخليجي» ومصر والأردن، وقاطعتْها كلّ من السعودية والكويت، بسبب خلاف سعودي - إماراتي متفاقم بدوره.
وأكد ذلك الانقسام، حديثُ الأكاديمي الإماراتي المقرّب من الرئيس محمد بن زايد، عبد الخالق عبدالله، عن أن «المحور الرباعي العربي الذي شمل مصر والسعودية والإمارات والبحرين (وحاصر قطر)، أدّى دوره وانتهى مفعوله، وأصبح شيئاً من الماضي». واعتبر عبدالله أن «قمّة أبو ظبي وضعت أسس محور عربي جديد، وأكدت أن قيادة الأمّة خليجية حتى إشعار آخر». وفوراً، رد المغرّد السعودي، سليمان العقيلي، على كلام عبدالله، قائلاً إن «المحاور ضدّ السعودية… قزّمت أصحابها وأسقطتْهم من عروشهم». وما لم يفصح عنه الوزير السعودي أيضاً، تولّى مقرّبون من النظام تفصيله، ولا سيما منهم الأكاديمي تركي الحمد، الذي غرّد قبل أيام، معتبراً أن السبب الأوّل في أزمة مصر «يكمن في هيمنة الجيش المتصاعدة على الدولة وخاصة الاقتصاد، بحيث أصبحت كلّ المشاريع في البلاد تمرّ عن طريق مؤسّسات خاضعة لها، ولصالح أشخاص متنفّذين داخلها على حساب القطاع الخاص ومؤسّسات المجتمع المدني التي كانت في أقوى حالاتها قبيل عام 1952». وأنبأت باستهداف الجيش المصري خصوصاً، إلى جانب ما تَقدّم، تغريدة أخرى للكاتب خالد الدخيل الذي رأى أن «ما يحصل لمصر في السنوات الأخيرة يعود في جذره الأول إلى أنها لم تغادر عباءة العسكر منذ 1952».
الردود المصرية على السعوديين لم تتأخّر، لكن أقواها جاء في مقال لرئيس تحرير صحيفة «الجمهورية»، عبد الرزاق توفيق، الذي اعتبر أنه «لا يجب على الحُفاة العُراة الذين ارتدوا أفخر الثياب أخيراً، التطاول على مصر زينة وأم الدنيا» - على رغم أن هذا المقال حُذف لاحقاً -. والخلاف السعودي - المصري الناشئ، كان بذاته محلّ استقطاب في الخليج، إذ في مقابل اصطفاف الإمارات مع مصر، لم يكن خافياً بروز أجواء في الكويت تميل إلى الجانب السعودي، بما لا يستثني أوساط المعارضة التي تكره السيسي وتعترض على تقديم المساعدات إلى مصر، وهو ما تجلّى في تصريحات أمين سرّ مجلس الأمة الكويتي، أسامة الشاهين، القريب من «الإخوان»، والذي حذّر حكومة بلاده من الانصياع لأوامر «صندوق النقد الدولي»، ومطالبته دول الخليج بتوفير موارد تمويلية جديدة لمصر تُقدَّر بـ14 مليار دولار.
أيضاً، يَبرز تململ شعبي كويتي من الجالية المصرية التي تُعتبر كبيرة بالمقاييس الكويتية، ويحتلّ أفرادها الكثير من الوظائف الحكومية وفي سلك التعليم وسلك القضاء، في الوقت الذي لا يجد فيه كثير من الخرّيجين الكويتيين وظائف، وينتظرون سنوات طويلة للحصول على قسائم أراض وقروض لبناء منازلهم. وفي هذا الإطار، اتّهم الكاتب الكويتي، علي الفضالة، الحكومة المصرية بتحويل شعبها إلى «شحّاتين» من خلال عملهم في دول الخليج، قبل أن يعتذر مشيراً إلى أن التعبير خانه. وقبْل ذلك، أثار مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يُظهر اعتداء بالضرب على طلبة كويتيين في الإسكندرية، غضباً كويتياً، ومطالبات للسلطات بالردّ على الأمر بحزم. حتى إن البعض طالب بقطع العلاقات مع مصر «حفاظاً على كرامة الكويتيين وعقاباً لمصر».