الأزمة بين السعودية والإمارات لا تنفكّ تَكبر. على رغم كثافة تبادُل الزيارات في الآونة الأخيرة، بين دول الخليج وبعض الدول العربية القريبة كمصر والأردن، لوحظ شبه قطيعة بين الرياض وأبو ظبي في الأشهر القليلة الماضية. ومع ذلك، ما زال المقرّبون من قيادتَي البلدَين، إمّا يتجاهلون الأزمة أو ينكرونها، فيما لم يَعُد من الممكن إخفاء مظاهرها. لم يَحضر وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، القمّة السداسية التي استضافها رئيس الإمارات، محمد بن زايد، في أبو ظبي الشهر الماضي، وشملت أربع دول خليجية ومصر والأردن. وقبل ذلك، غاب ابن زايد عن القمّتَين، الخليجية - الصينية والعربية - الصينية، في الرياض. كما لم ينضمّ أحد من الإمارات إلى ابن سلمان لمشاهدة سباق للسيارت أُقيم قبل أيام في مدينة العلا، وشارك فيه أمير قطر، تميم بن حمد، ونجل ملك الأردن، الحسين بن عبدالله، ونجل سلطان عُمان، ذي يزن بن هيثم. كانت لابن سلمان، وما زالت، مشاكل مع كلّ الدول المحيطة به، ومع كثيرين آخرين في العالم. وهي مشاكل انفجرت تباعاً منذ تسلُّمه قيادة المملكة الفعلية عام 2017، ثمّ تراجعت حدّتها تدريجياً، في ظلّ فشله فيها جميعاً، كما حصل في حالة قطر أثناء «الحصار الرباعي»، وفي حالة الأردن خلال محاولة الانقلاب على الملك عبدالله الثاني. ظلّت الإمارات حليفة ابن سلمان في كلّ تلك المحطّات، بما فيها، بل في أساسها، العدوان على اليمن، فيما لا يُنسى دور ابن زايد وسفيره في واشنطن، يوسف العتيبة، في أصل مجيء الأوّل إلى السلطة. لكن منذ أن تَحوّل تركيز وليّ العهد السعودي إلى داخل المملكة، حيث يقود «نفضة شاملة» للاقتصاد، ويسعى إلى تغيير طبيعة المجتمع لإبعاده عن التديّن والمحافظة، تحوّل التنافس الأساسي إلى ما بينه وبين ابن زايد؛ بالنظر إلى أن رؤية الأوّل، «2030»، تَفترض حُكماً انتزاع الكثير من أدوار الإمارات، وخاصة دور دبي كمركز مال وأعمال إقليمي، لمصلحة الرياض.
الترجمة العملية لهذا الاستحواذ على الدور، والتي لم يتأخّر ابن سلمان في الكشف عنها، تَمثّلت في قرار السعودية، عام 2021، منْح الشركات الأجنبية الكبرى العاملة فيها، مُهلة تنتهي بنهاية العام الجاري، لنقل مقارّها الإقليمية إلى المملكة، تحت طائلة امتناع كلّ الجهات الحكومية السعودية عن توقيع عقود معها. وتَحظر القواعد الجديدة، على تلك الجهات، حتى توقيع عقود مع أطرافٍ ذات صلة بالشركات التي لا تملك مقارَّ في السعودية، مِن مِثل وكلائها ومُوزّعيها ومُورّدي بضائعها أو خدماتها. ولأن غالبية الشركات المُشار إليها، تتّخذ من دبي مركزاً إقليمياً لها، فإن المستهدَف الأساسي بإجراءات ابن سلمان، هو دبي، التي تشكّل الجناح المالي والتجاري لـ«قصّة النجاح» الإماراتية بكاملها. وفي المقابل، تردّ دبي بالإعلان عن افتتاح المزيد من المقارّ الإقليمية؛ إذ شهدت «واحة دبي للسيليكون» افتتاح المقرّ الإقليمي الجديد لشركة «تلر» لخدمات الدفع الإلكتروني، والتي تستهدف السوقَين الإماراتية والسعودية، لتمكين الشركات فيهما من الدفع بما يزيد عن 120 عملة، باستخدام أكثر من 30 لغة. كذلك، افتتح منصور بن محمد بن راشد، نجل حاكم دبي، المقرّ التكنولوجي الإقليمي لشركة «طلبات»، والذي يضمّ نحو ألفَي موظّف من 71 جنسية.
قد ينجح ابن سلمان في جعْل بلاده مركزاً تجارياً ومالياً إقليمياً، وقد يفشل، لكنه في كل الأحوال سيسيء إلى دور دبي


قد ينجح وليّ العهد السعودي في جعْل بلاده مركزاً تجارياً ومالياً إقليمياً، وقد يفشل. لكن أكثر ما يثير سخط الإماراتيين أنه، في طريقه إلى النجاح أو الفشل، سوف يحطّم دور دبي التي تحتلّ حالياً المرتبة الـ17 على مؤشّر المراكز المالية العالمية، مقابل المرتبة الـ98 للرياض، خصوصاً أن «المشوار» السعودي طويل وشاقّ، لأسباب تتعلّق بالطبيعة القمعية الشديدة لنظام المملكة، وبالهويّة المُحافظة إجمالاً للمجتمع السعودي. أمّا موقع دبي المتقدّم، فيُنسب، جزئياً، إلى عاملَي الثقة والجدارة؛ فهي أصبحت مركزاً مالياً لأنها نجحت في إقامة مناطق حرّة ذات قدرة على المنافسة عالمياً، وبيئة مؤاتية للأعمال، بما في ذلك توفير القاعدة التشريعية الثابتة التي تضْمن الاستمرارية، في الوقت الذي ظلّت فيه الحركة السعودية في هذا المجال بطيئة جدّاً. ومع كلّ المزايا التي باتت تتمتّع بها المملكة، إلّا أن محاولة إجبار الشركات على الانتقال، بغضّ النظر عن ظروفها، يمثّل بحدّ ذاته نقيصة سعودية، إلى جانب الشكاوى من البيئة التشريعية غير المساعِدة. فغرفة التجارة الأميركية تأخذ، على سبيل المثال، على الرياض إقرار قانون يتعلّق بالمعلومات والخصوصية، يثير قلق شركات التكنولوجيا والبنوك وشركات التحويل المالي، الأمر الذي دفَع سلطات المملكة إلى تأخير تنفيذه حتى آذار المقبل.
لكن منذ الطرح العام الأوّلي الذي أجرتْه شركة «أرامكو» عام 2019، وكذلك رفْع حدود المُلكية المسموح بها للمستثمرين الاستراتيجيين الأجانب في الشركات المدرَجة في سوق الأوراق المالية السعودي «تداول»، إلى 49% في العام ذاته، بدأت البنوك العالمية الكبرى السعي إلى الحصول على مزيد من العقود في المملكة، ليشهد عام 2020 قفزة كبيرة في الطروح العامّة الأوّلية بفضل ارتفاع أسعار النفط وتَوفّر فوائض مالية ضخمة. وتشير تقارير إعلامية إلى أن بنوك «غولدمان ساكس» و«سيتي غروب» و«جي بي مورغان تشيز» و«دويتش بنك»، كلّها تتوسّع في الشرق الأوسط في ظلّ طفرة تلك الطروح، بينما افتتحت عائلة «روثشيلد» المعروفة في العمل المصرفي، مكتباً في المملكة عام 2022. وكذلك، اعتبرت مؤسسة «لازارد» للاستشارات المالية وإدارة الأصول، في أيلول 2022، أن الرياض هي «المقرّ الطبيعي» لمكتبها الإقليمي، وقامت بتوظيف السعودية سارة السهيمي، التي كانت سابقاً رئيسة لسوق «تداول»، كرئيسة لعمليّاتها المصرفية الاستثمارية الإقليمية. ويأمل السعوديون في أن تقوم أكثر من 400 شركة بفتح مقارّ إقليمية في المملكة حتى عام 2030، في إطار جهودها لتنويع الاقتصاد وتخفيف الاعتماد على النفط. ووفق الرئيس التنفيذي للهيئة الملَكية في الرياض التي تتولّى إدارة برنامج نقْل المقارّ، فهد الرشيد، فقد قامت نحو 81 شركة بنقل مكاتبها إلى العاصمة السعودية بحلول نهاية 2022، فيما المستهدَف الوصول إلى 162، بنهاية العام الجاري، علماً أن وزارة الاستثمار السعودية ستقوم بإعداد لائحة بأسماء الشركات التي لا تملك مقارَّ إقليمية في المملكة، ونشْرها ضمن بوّابة على الإنترنت وتحديثها بانتظام.
لكن ثمّة شركات يَصعب انتقالها إلى الرياض، ومنها شركات وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى، مِن مِثل «تويتر». ومع أن السطات السعودية تمكّنت سابقاً، بالتعاون مع أبو ظبي، من اختراق الشركة والتعرّف إلى هويّات مُنتقِدي النظام السعودي، والذين جرى تبعاً لذلك زجّهم في السجون حيث حُكم عليهم بمُدد طويلة، إلا أن خيار الانتقال إلى الرياض لهذا النوع من الشركات سيكون أسوأ. وإذ ما زالت الإمارات تُعتبر المقصد المفضَّل للبنوك ورجال المال الباحثين عن فُرص في الشرق الأوسط، فإن السعودية تمتلك أفضلية تتمثّل في أن «صندوق الاستثمارات العامّة» (السيادي) تحوّل إلى مستثمر نشط في المملكة وفي العالم، وفي برنامج تنمية القطاع المالي الذي يشمل إجراءات تستهدف تحسين بيئة الأعمال وجذْب الاستثمارات الأجنبية، وكذلك في النموّ الاقتصادي، والأهمّية الاستراتيجية للسعودية، والنشاط التجاري المتزايد، ومشاريع البُنى التحتية. ولذا، فإن لدى المملكة فرصة كبيرة لجعل الرياض مركزاً مالياً وتجارياً إقليمياً، ما يجعل عام 2023 لحظة مناسبة لها. لكن هل ستتمكّن من إزاحة دبي والحلول مكانها؟ هذا يبقى مرهوناً بالوقت، وبالتطوّرات العامة التي ما زالت السعودية في قلْبها، ومنها السياسية، وأيضاً بمستقبل أسعار النفط.
لكنّ الأكيد أن مجرّد المحاولة السعودية يثير حساسية إماراتية كبيرة، لعلّ أفضل مَن عبّر عنها قبل أيام، حساب «العهد الجديد» السعودي المعارِض على موقع «تويتر»، حين تحدّث عن توتّر جديد في العلاقات بين السعودية والإمارات، مشيراً إلى أن ابن سلمان يستغلّ «علاقته القوية» مع سلطان عُمان، هيثم بن طارق، في التنسيق لإقامة منطقة حرّة في عُمان على بحر العرب، مضيفاً أن الهدف الأساسي من ذلك، يتمثّل في مواجهة أبو ظبي وإضعاف سطوتها في المنطقة. كما أن لوليّ العهد السعودي، وفق الحساب نفسه، علاقة جيّدة بوليّ العهد الكويتي، مشعل الأحمد الصباح، و«يَجري التنسيق بينهما على شيء»، لم يَكشف الحساب عنه.



الرياض اجتذبت 81 شركة و6 مدارس
قامت 81 شركة عالمية بنقل مقارّها الإقليمية من دبي إلى السعودية بحلول نهاية 2020، في إطار برنامج سعودي تُديره الهيئة الملَكية في مدينة الرياض، ويستهدف جعْل العاصمة السعودية مركزاً مالياً وتجارياً إقليمياً. ومن بين تلك الشركات: «بيبسيكو»، «ديدي»، «يونيليفر»، «سيمنز»، «كي بي أم جي»، «جونسون كونترولز»، «نوفارتيس»، «بيكر هيوز»، «هاليبرتون»، «فيليبس»، «فلور»، «شلمبرغر»، «أس إيه بي»، «بي دبليو سي»، «أويو»، «بوسطن ساينتفيك»، «تيم هورتونز»، «ديلويت»، «ميدترونيك»، «ليلي»، «بيكتل»، «دايمنشن داتا»، «بي إيه تي»، «سامسونغ»، «500 ستارت آبس»، «سيستم إير»، «دي دبليو أف»، «ألدرلي»، «ناكتك»، «تشاينا سي إي أو»، «إي إيه آي سيستمز»، «ذا غرينبراير كومبانيز»، «إتش آي سي تي»، «غليدز»، «انترهيلث كندا»، «بيرو هابولد»، «في أف أس غلوبال»، «إتش إي سي»، «إكتسريم»، «ماكين إنرجي»، «فور»، «جيمس كابيت آند بارتنرز»، «رودل آند بارتنر» و«أوبترنا». كذلك، اجتذبت الرياض ستّ مدارس أجنبية كبرى لتفتتح فروعاً فيها، منها أربع مدارس بريطانية هي «داون هاوس»، «كينغز كولدج»، «الدينهام» و«ريجيت غرامار»، ومدرسة «أس أي كاي» الإسبانية، و«ون وورلد» السنغافورية.