قَبل أن يتوجّه الكويتيون إلى صناديق الاقتراع اليوم، لاختيار 50 عضواً في مجلس الأمّة الجديد، كانت الصورة شبه مرسومة سلفاً. فالانتخابات هذه، كما يُرجّح كثير من المراقبين، ستُعيد تركيب خلْطة السلطة في الكويت، والتي ظلّت لسنوات طويلة قائمة على تحالف القيادة السياسية، مع الحَضر السُنّة والشيعة الذين يمثّلون طبقة كبار التجّار، لتتحوّل نحو إقامة شراكة جديدة مع القبائل والإسلاميين، لا تُمثّل بالضرورة تحالفاً، وإنّما تُمليها الحاجة، بأمل أن يؤدي هذا إلى تخفيف التأزّم الذي ميّز العلاقة بين السلطتَين التنفيذية والتشريعية طوال كلّ تلك السنوات، عبر تسليم جزء من القرارات التنموية للمعارضة القبلية والإسلامية. ولم تكن المؤشّرات إلى ذلك التحوّل قليلة، إلّا أن أهمّها على الإطلاق تَرشّح رئيس مجلس الأمّة السابق، أحمد السعدون، لخوض السباق، على رغم تَقدّمه في السنّ (88 عاماً)، مع ما له من تاريخ طويل في العمل النيابي المعارض، بدأ بانتخابه نائباً للمرّة الأولى عام 1975، ثمّ ترؤّسه المجلس دورات عدّة. ويُضاف إلى ما تَقدّم، عزوف رئيس المجلس المنحلّ، مرزوق الغانم، الذي كان، بصفته ممثّلاً لطبقة التجّار، الحليف الوثيق للقيادة السياسية خلال تولّيه المنصب منذ عام 2013، عن الترشّح، وإنْ على وعد بالعودة لاحقاً، إذ أكد في بيان العزوف أن «هذا القرار المرحلي لا يعني إطلاقاً ابتعادي عن المشهد السياسي».هذه الشراكة الجديدة، كان السعدون نفسه قد ألمح إليها حين تحدّث قبل شهر عن «تدشين عهد الإصلاح»، وذلك تعليقاً على الخطاب الأميري الذي تضمّن إعلان قرار حلّ مجلس الأمة في مطلع الصيف، ومثّل فعلياً افتتاحاً للعهد الجديد الذي يقوده وليّ العهد، مشعل الأحمد الصباح، في ظلّ مرض الأمير نواف الأحمد الذي كان قد نقل جزءاً من صلاحياته إلى الأوّل، على رغم أن مشعل أبْقى في الخطاب نفسه خياره الدستوري الآخر قائماً، إذا عادت أجواء التأزيم بين مجلس الأمّة وبين الحكومة. ويتمثّل هذا الخيار في تعليق العمل ببعض مواد الدستور لتعطيل المجلس، في ظلّ تَوقّعات بأن يكون البرلمان الجديد تحت سيطرة المعارضة أكثر من سابقيه، وأن يتولّى السعدون رئاسته، خصوصاً أن القيادة تعهّدت بعدم التدخّل في انتخابات رئاسة مجلس الأمّة، بالإعلان سلفاً أن وزراء الحكومة الذين هم حُكماً أعضاء غير منتخبين في المجلس، لن يشاركوا في التصويت على رئاسته. وعلى رغم ترحيب المعارضة بالمعادلة التي رسمها ولي العهد، والقاضية بأن يقوم البرلمان بمراقبة عمل الحكومة من دون التدخّل فيه إلّا بما يسمح به الدستور، على أن لا تتدخّل القيادة في عمل الأوّل في المقابل، إلّا أن من الصعوبة تصوُّر أن تؤدّي هذه «المقايضة» إلى نهاية الأزمة السياسية المزمنة في الكويت، ما يرجّح أن الأمر لن يطول قبل الوصول إلى الخيار الآخر الذي تحدّث عنه وليّ العهد، والمتمّثل في ما يسمى حلّاً غير دستوري للمجلس، أي تعطيل الحياة النيابية.
تَرشُّح السعدون وانسحاب الغانم مؤشّران إلى تغيير تحالفات الحكم


وتؤكّد عملية مكافحة ما يسمّى «التشاوريات» و«الفرعيات»، وهي انتخابات تمهيدية تُجريها بعض القبائل لاختيار مرشّحيها إلى المجلس، واعتقال العشرات، ومِن ضمنهم مرشحون، ممّن شاركوا في هذه الممارسة التي تَحظرها السلطات، رغبة الحُكم في تقليص التأثير القبلي الذي يحدِّد، مع التأثير الإسلامي، إلى حدّ بعيد، وُجهة التصويت في الكويت. وهذا في الأساس كان سياق إقرار قانون الصوت الواحد والدوائر الخمس الذي تجري على أساسه الانتخابات منذ عام 2012، بعد أن كان قانون الأربعة أصوات المعمول به قبل ذلك، يتيح تبادل الأصوات بين القبائل لزيادة عدد نوّابها. وتُؤذن هذه الانتخابات ببدء مرحلة جديدة من قيادة البلاد، حيث تُشارف المرحلة الانتقالية التي بدأت بوفاة الأمير الراحل، صباح الأحمد الصباح، على الانتهاء مع بدء مشعل تنفيذ برنامجه للحُكم، والذي لا يريد أن تعطّله الخلافات بين الحكومة ومجلس الأمّة، وذلك من خلال إقامة فصل حقيقي بين السلطتَين اللتين شكّلت العلاقة الدائمةُ التأزّم بينهما، أحد أهمّ عوامل التصادم في مراحل مختلفة من التاريخ الكويتي الحديث. ففي السنوات الأخيرة، أسقطت المعارضة عدداً من رؤساء الوزراء بعد أن شلّت حكوماتهم بالاستجوابات للوزراء ورئيسهم، غالباً بتهم فساد. والسعدون المنتمي إلى «كتلة العمل الشعبي» القائمة منذ 2001، قاد بنفسه حملات ضدّ الحكومة من داخل البرلمان وخارجه، وكان بهذه الصفة طرفاً في العديد من تلك الأزمات.
وإذ يسعى وليّ العهد لوضع بصمته على الحياة السياسية، فإنه يقرّب عملياً بلاده من أسلوب الحُكم في دول خليجية أخرى، وتحديداً السعودية والإمارات اللتين شهدتا عمليتَين انتقاليتَين في السنوات الأخيرة، ولا يوجد في أيّ منهما برلمان منتخَب يقيّد عمل القيادة. ومشعل معروف بعلاقته الوثيقة بوليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي لم يخفِ انزعاجه من مجلس الأمّة الكويتي، وهو ما تجلّى في سلسلة حملات نظّمتها قناة «العربية»، وكذلك الذُباب الإلكتروني السعودي تحت عنوان أن الخلافات بين المجلس والحكومة تعطّل التنمية في الكويت، فيما سبق أن تحدّثت حسابات سعودية معارضة عن خطّة سرّية لدى ابن سلمان للإطاحة بالبرلمان الكويتي. ومع هذا، لن يكون سهلاً تعطيل مجلس الأمّة، تماماً كما لم يكن هكذا في السابق؛ إذ لن يَقبل الكويتيون تحمّل حياة سياسية بلا برلمان، بعد أن ذاقوا طويلاً طعم التمايز عن الجوار الخليجي، والذي انعكس قدْراً لا يستهان به من الحريات السياسية والشخصية، وأيضاً من استخدام البرلمان بفاعلية لفرض تحسينات على مستوى معيشتهم.
وفي حين تعود المعارضة إلى جذورها مع رمزيّة السعدون، تسعى القيادة السياسية إلى ترتيب صفوفها. ومثّل الانتقال إلى جيل آخر من القادة داخل الأسرة، من خلال تولّي أحمد النواف رئاسة الوزراء، خطوة كبيرة على هذا الطريق، بعد أن وصل كلّ رؤساء الحكومات السابقون إلى طريق مسدود مع مجلس الأمّة. ويتطلّب استكمال ذلك التحوّل نزْع إمكانية تعطيل المشاريع على يد البرلمان الذي سبق لنوّابه أن أحبطوا العديد من مشاريع التنمية الكبرى، تحت عنوان تورّط رؤساء حكومة ووزراء، وحتى نواب، في شبهات فساد شابت هذه المشاريع، فيما شارك الكثيرون منهم، هم أنفسهم، في البازارات السياسية لتحقيق مكاسب لهم ولدوائرهم ولناخبيهم، على حساب التنمية التي أتاح التفرّد بالحُكم المُضيّ فيها من دون اعتراض في دول أخرى، ولا سيما في حالتَي السعودية والإمارات وأيضاً قطر.