«دبي ليست صدفة... دبي اليوم دانةُ الدنيا وستبقى بإذن الله». هكذا أخبرَت سماءُ مكّة، محمد بن راشد، عندما كان يرقب نجومها مسائلاً إيّاها عن المستقبل. هناك، «تحت نجوم مكّة، بدأت رؤيتي». يكاد المستمع إلى تلك القصة الشاعرية يخال ابن راشد نبيّاً من الأنبياء، ودولته التي تحتفل اليوم بعيدها الخمسين، «المدينة الفاضلة» التي أخبرنا عنها فلاسفة اليونان، وكُتبه التي تؤرّخ «نضالاته» وأترابه وأسلافهم، ينبوع «الحكمة» الذي يُغترف منه لتلمّس طريق النجاة. لكن مهلاً؛ ليس ما تَقدّم إلّا نموذجاً من وساوس ابن راشد في مخطوطاته (كتاب «قصّتي» تحديداً) التي أودعها قليلاً من أصالة («حكمة» بتعبيره)، وكثيراً من تكلّف («محبّة» بلَفْظه)، مجتهداً في تطويع اللغة لتمويه حقيقة «الحاكم الملهَم»، الذي تفرّ منه زوجاته وبناته فرارَ الفريسة من قاتلها. هذا الشيخ المهووس بالثرثرة، هو الإبن الثالث للشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي تأسّس على يدَيه ويدَي «رفيقه» الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الاتحاد الحالي المُسمّى «الإمارات العربية المتحدة». صحيحٌ أن حاكم دبي، الذي تولّى الإمارة في 4 كانون الثاني 2006، قد لا يحتاج إلى مَن يعرّف عنه في ظلّ كثرة الطبّالين والمزمّرين على امتداد مساحة الأمّة، لكن استحضاره هنا مردّه طبيعة المناسبة التي يقدّم ابن راشد شهادات «مفيدة» في شأنها.
يتوجّس الإماراتيون من توجّه السعوديين لإجبار الشركات المتعاملة معهم على نقل مقارّها الإقليمية إلى المملكة(أ ف ب )

يريد منّا المُنظّر لـ«فكر دبي وفلسفتها»، أن نبتعد عن «ضوضاء السياسة وتشابكاتها ومعاركها الصِفرية»؛ ذلك أنها «لم تصنع لنا نحن العرب شيئاً». بتعبير آخر، أن نقفل أذهاننا، ونصمّ آذاننا، ونكمّ أفواهنا، ونَنْعم بالجَهالة وفق ما يفعل بعض أصحاب «الإقامة الذهبية»، الذين يَبدون أشدّ الناس حرصاً على حياة، أيِّ حياة، ولو في زنزانة يتوهّم صاحبها أنه اختار «المعركة الصحيحة»، تماماً كما خُيّل لابن راشد أن «مباهاة الغليون» ما بين أبيه ورئيس الوزراء البريطاني الراحل، هارولد ويلسون، في صيف عام 1969، إنّما انتهت رمزياً لصالح المستعمَر، بقول راشد لابنه: «قُل لويلسون إنّني متّفق معه بأن غليونه أكبر، ولكن بالرغم من أن غليوني صغير، إلّا أن التبغ المستخدَم فيه قوي وثقيل للغاية». يجبّ الراوي الحقائق بأحاديث مختزَلة تستهدف إقناعنا بعظَمة متخيَّلة، إلّا في ما يتّصل منها بِفِعل «العقارب» (التي يمقتها ابن راشد)، حيث تَظهر الإمارات، بالفعل، أعظم دولة وشاية ونميمة على الإطلاق، فضلاً عن براعتها في تحويل الصحراء، لا إلى «آيات جمال» رأسمالية، بل إلى مقابر جماعية للبشر، ليس سجن الوثبة القائم على بُعد عشرات الكيلومترات فقط من «أطول بُرج»، سوى نموذج منها.
«استجابةً لرغبة شعبنا العربي، فقد قرّرنا، نحن حكّام إمارات أبو ظبي ودبي والشارقة وعجمان وأم القيوين والفجيرة، إقامة دولة اتحادية باسم الإمارات العربية المتحدة». هكذا، اجتمع زعماء القبائل المتناحرة على القُطعان والقوافل ومصادر المياه واللآلئ، في حقبة كانت فيها الإمبراطورية البريطانية تعيش آخر أيامها، لتشكيل الاتحاد الذي لا تزال الخلافات التاريخية تدبّ في ما بين أطرافه، وإن لم تتّخذ إلى الآن أيّ شكلٍ دراماتيكي. هذا الرِباط الهشّ، وإن بدا شديد التماسك في ظاهره، هو ما تُفسَّر به، أساساً، السياسات الداخلية القائمة على ديكتاتورية فريدة من نوعها، وتلك الخارجية المرتكزة على اللهاث الدائم وراء مكانة مستحيلة، في ما يُسمّي أنور قرقاش آخر تجلّياته، المتجسّد في انتهاء الفصْل الأكثر مأساوية من تمثيلية «أسبرطة العرب»، بـ«الحكمة والحنكة وطول النفَس». أدرك، محمد بن زايد، الشيخ الذي «لا يريد أن يكون في الصورة» كما سبق أن نقل عنه أحد أصدقائه - لا تواضعاً على ما يبدو، إنّما سعياً لاصطناع هالة يصعب رسمها واقعاً نظراً لغياب الكاريزما -، مبكراً، أن إماتة بذور التمرّد الموروثة من زمن «ساحل القراصنة»، لن يكون ممكناً من دون فرْض حُكم الفرد المستبدّ، الذي حوّل «المجلس الأعلى للاتحاد»، الذي يضمّ حكّام الإمارات السبع ويُفترض به هو، وفق الدستور، أن يتّخذ القرارات المصيرية مِن مِثل الانخراط في الحرب على اليمن أو التطبيع مع إسرائيل، إلى هيكل عظمي بلا حوْل ولا قوّة. ولا يُستثنى من ذلك إلّا الهامش (المحدود) الممنوح لآل مكتوم، بوصْف إمارتهم «أيقونة» البلاد، التي تَفقد الأخيرة بفقدانها «وظيفتها العظيمة»، كما يسمّيها ابن راشد، والمتمثّلة في «تغيير حياة الملايين نحو الأفضل»، أي بتعبير أوضح، حَشْرهم في «مستعمرة عبيد كبرى» هي «أجمل (إقرأ: أقبح) ما في حياتنا».
تستعجل الإمارات استثمار اللحظة في خلْع ثوب البلطجة وتدثّر عباءة «تعزيز الجسور وتصفير المشاكل»


على أن هؤلاء الملايين العشرة، الذين يتفاخر قرقاش بوصول التعداد السكّاني الإماراتي إلى عتبتهم، بعدما لم يكن يتجاوز في عام 1968 حاجز الـ180 ألف نسمة، ليس سوادُهم الأعظم، أي ما لا يقلّ عن 85% منهم، إلّا مهاجرين تجمعهم بالمشائخ رابطة المال، لا اللُّحمة الوطنية الموهومة التي يحاول فيلم «الكمين» الإماراتي المنتَج حديثاً بمناسبة «اليوم الوطني» للبلاد، نسْج خيوطها بمِغزل بطولة متخيّلة في بطون أودية اليمن. ولعلّ تلك الحقيقة لا تفتأ تَطرُق أذهان حكّام الإمارات، كلّما صفَت وخرجت لبُرهة من كيس العَمْلقة المصنوعة بالأموال، ليَلفوا أنفسهم أمام تحدٍّ وجودي متقادم: البُنية القومية للسكّان. تحدٍّ هو ما يجعلهم يسعون منذ عشرات العقود إلى «تأمين قاعدة اجتماعية قوية لهم بين السكّان الأصليين»، عبر «تقديم مختلف التسهيلات المادية» لهؤلاء، وفي الوقت نفسه «اتّخاذ كلّ الإجراءات الممكنة لتفادي حدوث أيّ شكل من أشكال الصدام الاجتماعي»، وذلك بهدف «الحفاظ على البنية السياسية الاجتماعية القائمة»، وفق ما يورده ف. أ. لوتسكييفيتش، ور. ف. كليوكوفسكي، في كتابهما «الإمارات العربية المتحدة»، الصادر عام 1979، إنّما الصالح لتفسير الكثير من الظواهر الراهنة.
على أن هذه المساعي لا تحجب الاشتغال المتواصل على إدامة ركيزة إغراء المغتربين وتطويرها، خصوصاً في وقت يَكثر فيه المنافسون في مجال العولمة والنيوليبرالية، وعلى رأسهم السعودية التي لا تُخفي تطلّعها إلى انتزاع موقع دُبي في المنطقة، من خلال مشاريع مدنٍ عالمية مِن مِثل «نيوم» و«ذا لاين». وهي مشاريع، على تعثّرها، تكاد تمثّل مصدر قلق دائم بالنسبة إلى أبو ظبي، لاسيما في ظلّ تَوجّه المملكة لإجبار الشركات المتعاملة معها على نقل مقارّها الإقليمية من الإمارات إلى السعودية، تحت طائلة حرمانها من العقود في حال فشلها في إتمام هذه المَهمّة بحلول عام 2024. وفي مواجهة ما تَقدّم، بدأ الإماراتيون سلسلة خطوات احترازية، من بينها أخيراً تعديل قوانين الأحوال الشخصية بما يمكّن الأجانب من اتّباع قوانين بلدانهم في ما يتعلّق بالطلاق والميراث - الأمر الذي لا يبدو منفصلاً البتّة عن «اتفاقيات آبراهام» التي أعقبها إنشاء «رابطة المجتمعات اليهودية في الخليج» بهدف تثبيت قواعد عيْش لليهود في الدول الخليجية وعلى رأسها الإمارات والبحرين؛ فالخلْق كلّهم «عيال الله» كما أوصى زايد ابنه في ثمانينيات القرن الماضي -، فضلاً عن إلغاء تجريم الكحول، والسماح لغير المتزوّجين بالإقامة معاً، وقبْل ذلك منْح المقيمين فرصة للبحث عن وظائف جديدة في حال تعطّلهم عن العمل بدلاً من ترحيلهم مباشرة. والظاهر أن هذا المسار التحوّطي لن ينتهي قبل أن يصل بالإمارات إلى حيث ستجد نفسها مُجبرةً على تطوير برامج منْح الجنسية، وجعْلها أكثر تساهلاً، بعدما ظلّت منحصرة - حتى الآن - بدائرة شراء العقارات.
على أيّ حال، وعلى رغم كونهم «جيران سُوء»، إلّا أن «أيّ شخص يحلّ محلّ آل سعود سيكون كابوساً... علينا أن نساعدهم على مساعدة أنفسهم»، وفق ما قاله ولي عهد أبو ظبي للدبلوماسي الأميركي، جيمس جيفري، في عام 2005 («ويكيليكس»). لكن «معروف» ابن زايد هذا، والذي لعب دوراً مشهوداً في تصعيد ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى سدّة الحُكم، يبدو أنه بدأ ينقلب على أصحابه، شأنه شأن المغامرات العسكرية المتنقّلة من سوريا إلى اليمن وليبيا وغيرهما، والتي لم يَعُد بإمكان أبو ظبي المُضيّ فيها من دون المخاطرة بـ«مسافة الأمان» التي لا تزال تحرس الهيكل. ومن هنا، يغدو مفهوماً ما يقوم به الإماراتيون منذ مدّة من إعادة جدولة لأولوياتهم، وعملية تصفية لخسائرهم، وخطوات تهدئة تجاه خصومهم، مستعجلين استثمار اللحظة الإقليمية والدولية في خلْع ثوب البلطجة وتدثّر عباءة «تعزيز الجسور وتصفير المشاكل»، وفق ما يحاجج به قرقاش أيضاً. أمّا الثابت في كلتا المرحلتَين، فهو السعْي إلى البقاء دائماً تحت المظلّة الأميركية، وحديثاً الإسرائيلية، ولو جرى، من وقت إلى آخر، التلويح بشراكات مضادّة لا تزال عاجزة عن المنافَسة والصمود. ذلك أن الهدف الرئيس المتمثّل في جعْل ابن زايد «مهووساً» بالمنتَج الغربي، تَحقّق منذ عام 1995 عندما استدُعي الرجل إلى معسكر «ليجون» الأميركي، حيث حضر مناورة حيّة لـ«المارينز». وإذا كان الأمر كما تَقدّم، فإن ابن زايد «سيشتري أيّ شيء ننتجه» - بحسب المنقول عن وزير الدفاع الأميركي السابق ويليام بيري -، ولو أنه «مسبارٌ» يلهو الإماراتيون ومريدوهم بالتقاط صُور إلى جانبه.