مدفوعاً بهذا الواقع، استطاع الأمير أحمد العودة إلى المملكة قبل عام ونيف، بضمانات حماية من مسؤولين أميركيين وأوروبيين، بعدما تبرّأ أمام نُشطاء من سياسة ابن سلمان في تشرين ثاني / نوفمبر 2018 في لندن، حيث لجأ قبل ساعات من حملة «الريتز». ولكن بعودته، حمل الأمير الذي لم يبايع ابن سلمان ولياً للعهد، مشروع «إنذار» أميركي وأوروبي لابن سلمان، تُرجم في لقاءات مع أمراء كبار (من بينهم شقيقاه مقرن وطلال قبل وفاته)، بدت أشبه بجلسات «هيئة البيعة»، بهدف «بحث إمكانية تغيير ترتيب ولاية العرش، لكن ليس في حياة الملك سلمان»، كما أكدت وكالة «رويترز» نقلاً عن مصادرها، في ردّ لها على نفي وزير الخارجية في حينه، عادل الجبير، وجود تحرّك من هذا القبيل. في حين تقاطعت المعلومات أن مهمة الأمير أحمد كانت أيضاً «التواصل مع شقيقه الملك لإعادة ترتيب البيت الداخلي... وإقناعه بإبعاد نجله عن سدّة الحكم». وبدا جلياً انعكاس الرغبة الغربية في ضرورة تغيير سلوك ابن سلمان، في استجابة قصر اليمامة للضغوط في بداية الأمر، بعدم التعرّض لأحمد والسماح بفتح باب الزيارة لكل من محمد بن نايف وعبد العزيز بن فهد وتركي بن عبدالله وغيرهم، ومحاولة الملك سلمان تحقيق مصالحة مع الأمراء المعارضين في الخارج، مشروطة بالالتفاف حول نجله ولي العهد. لكنها مساعٍ لم تؤت أكلها، لأنها لم تعالج أساس الخلاف.
لم تكن الاعتقالات لخشية من «انقلاب عسكري» داخلي بقدر ما هي رسائل إلى الخارج
ما سبق، يشي بأن أحمد كان بصدد «انقلاب»، بصورة أو بأخرى، بمعية أطراف أميركية وأوروبية. لكن خطوة ابن سلمان باعتقاله إلى جانب محمد بن نايف وضباط وموالين لهم أخيراً، أنهت كل شيء، لعلم ابن سلمان بعدم فعّالية الضمانات الخارجية لأحد في الداخل، وبضوء أخضر من ترامب، فيما لم تكن الاستجابة الخجولة سابقاً للضغوط سوى لتمرير مرحلة حرجة بعد جريمة قتل خاشقجي. لكن فعلياً، وبحسب التوقيت، لم تكن الاعتقالات لخشية من «انقلاب عسكري» داخلي بقدر ما هي رسائل إلى الخارج، مفادها استبعاد أي بديل، توقياً من استحقاقين باتا قريبين. استحقاقان، داخلي وخارجي، من المرجح أن يكونا كفيلين بتظهير نتائج الصراع: الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وموت الملك الذي يفترض الانتقال الأول من الحكم الأفقي إلى الحكم العمودي، أي من الأبناء إلى الأحفاد.
لا شكّ في أن فوز ترامب لفترة رئاسية ثانية، وهو ما يرجّحه المراقبون، من شأنه أن يعزّز من صمود الأمير الشاب في سباق العرش، فيما هزيمته تعني نهاية ابن سلمان أميركياً. غير أن موت الملك العجوز، وما قد يستتبعه من تنامي الضغوط في واشنطن أو التحرّكات الداخلية المحتملة، قد تدفع ترامب إلى التخلي أخيراً عن الشاب المطيع، حفاظاً على مصالح بلاده. وما معادلة «الاستقرار مقابل العرش» التي يضعها ولي العهد (سبق وأكد أنه لن يوقفه شيء غير الموت)، سوى ابتزاز يضعه ترامب في الحسبان. وقد كرّر الأخير، في أكثر من مناسبة، أن لا شيء يجمعه بالسعودية سوى المال، ما يعني تخلّيه عنها حين لا يعود هذا المال متوفراً (طبيعة العلاقة هذه تتجلى الآن بحرب نفطية تخوضها المملكة نيابة عن واشنطن كما هو حاصل اليوم). وسواء كان ذلك مع ترامب أو غيره، ثمّة سلاحان أميركيان لابتزاز المملكة: قانون «جاستا»، الذي يسمح بإجراء دعاوى قضائية ضد المملكة من قبل ضحايا هجمات 11 أيلول/سبتمبر وأسرهم، وقانون «ماغنيتسكي» الذي يلوّح به الكونغرس لمعاقبة قتلة خاشقجي. وحاجة الولايات المتحدة إلى مملكة النفط، كما أكد ترامب مراراً، لم تعد مقابلاً كافياً للحماية.
الانغماس الأميركي الحالي في صراع الداخل، يشبه إلى حد ما الانغماس البريطاني في انقلاب القصر عام 1964، الذي نفّذه ولي العهد آنذاك فيصل بن عبد العزيز، بخلع أخيه الملك سعود. فعنوان تلك المرحلة يحضر اليوم: الخشية من انهيار السلطة السعودية جراء سوء إدارة الملك. لكن الفارق هذه المرّة أن الإدارة الأميركية التي بدت يدها عليا في تصعيد ابن سلمان، لم تعد تنظر إلى السعودية كحاجة ملحّة، بل كحليف عليه أن يخضع لمصالحها كقوة مهيمنة.