لا يُتوقع أن يشهد النهج الذي أرساه قابوس بن سعيد تغييراً في المرحلة المقبلة. نَقلُ السلطة جرى بسلاسة: ساعات بعد إعلان وفاة السلطان، نُصِّب هيثم بن طارق سلطاناً لعُمان بناءً على وصية الراحل. ووسط حضور زعماء عرب وأجانب لتقديم العزاء، بدا لافتاً غياب التمثيل السعودي مترافقاً مع ترفُّعها عن إعلان الحداد أسوةً بـ«أشقائها» في «مجلس التعاون»، ما يؤشّر إلى مرحلة قد تزداد خلالها العلاقات جفاءً.
عُرف بين أبناء شعبه بـ«صانع النهضة» بعدما استثمر مليارات الدولارات في البنية الأساسية (أ ف ب )

عندما كتب سلطان عُمان الراحل، قابوس بن سعيد، اسم خليفته في مظروف مُغلق، كانت أولويته استمرار نهج «الحياد الإيجابي» الذي أرساه على مدى خمسة عقود. رغبةُ قابوس في «توريث» ابن عمه، هيثم بن طارق، مردُّها أن الأخير ببساطة هو الأكثر قرباً إلى شخصيته، ولدوره المحوري في رسم خريطة بلاده التنموية، فضلاً عن خبرته في السياسة الخارجية. أقرّت العائلة الحاكمة في السلطنة اختيار هيثم لتنتقل إليه ولاية الحُكم بموجب الرسالة التي فُتحت بعد وفاة قابوس مساء الجمعة عن 79 عاماً. ولأن السلطان لم يكن متزوّجاً ولا أبناء أو أشقاء له، فلم يُعلن على الملأ من يرشّح لخلافته، لكنه سجّل اختياره سِراً، ووضع اسمين بترتيب تنازلي في مظروفين مُغلقين في منطقتين مختلفتين، يُفتح أحدهما في حالة اختلاف العائلة على اختيار مَن سيخلفه. لكن العائلة اختارت فتح الوصية مباشرة، «عرفاناً وامتناناً للمغفور له... وبقناعة راسخة بتثبيت من أوصى به في وصيّته».
سرعان ما توجّهت الأنظار إلى الكلمة التي سيدلي بها هيثم بن طارق (65 عاماً) خلال أداء القسم، وخصوصاً منها الشقّ المتعلّق بالسياسات الخارجية للدولة: «سوف نرتسم خطّ السلطان الراحل مؤكّدين على الثوابت (...) وسياسة بلادنا الخارجية القائمة على التعايش السلمي بين الأمم والشعوب وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لغيرنا». بدا جليّاً أن سياسة الأب المؤسِّس لسلطنة عُمان الحديثة ستستمرّ بعد رحيله، لكن تطبيق ذلك لن يكون بسهولة الإعلان عنه. ثمة خطران ماثلان أمام السلطنة اسمهما السعودية والإمارات (انفجرت بين عُمان والأخيرة أزمة كبيرة عام 2011، عقب اكتشاف مسقط خلية تجسِّس إماراتية على أراضيها تسعى إلى جمع معلومات عن أجهزة الدولة، ولم تنتهِ الأزمة حينها إلا بتدخل أمير الكويت)، اللتان لا تروقهما سياسة عُمان، وربما تسعيان إلى ممارسة ضغوط على السلطان الجديد في محاولة للتأثير على تموضع بلاده. أيضاً، يخشى مراقبون مِن خلاف في الأسرة الحاكمة، يجدِّد التنافس بين القبائل ويزعزع الاستقرار السياسي بعد اختيار حاكم جديد، في وقت تَقلَّد فيه صَقران السلطة في الرياض وأبوظبي. وبدا لافتاً، في هذا السياق، أنه على الرغم من حضور زعماء دول «مجلس التعاون الخليجي»، بمَن فيهم أمير قطر تميم بن حمد وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، غياب التمثيل السعودي. وخلافاً لنظيراتها في مجلس التعاون (قطر والكويت والإمارات والبحرين) التي أعلنت الحداد ثلاثة أيام، لم تعلن المملكة الحداد، مكتفيةً ببرقية موقّعه باسم الملك سلمان ووليّ عهده محمد بن سلمان، يقدمان فيها «خالص التعازي» للسلطنة والشعب برحيل السلطان قابوس.
بدا جليّاً أن سياسة الأب المؤسِّس لسلطنة عُمان الحديثة ستستمرّ بعد رحيله


المنحى الدبلوماسي ليس التحدّي الوحيد الماثل أمام السلطان الجديد. إلى جانبه أيضاً تحدّيات داخلية، مع تسجيل البلاد معدّل بطالة مرتفعاً، وازدياد اعتمادها على الاقتراض الخارجي وسط انخفاض أسعار النفط. ومن هنا، تأتي أهمية تولّي هيثم بن طارق، منذ عام 2013، رئاسة لجنة الرؤى المستقبلية المكلفة التخطيط لمستقبل عُمان، أو «رؤية 2040»، وهي خطة إصلاح طويلة الأمد ستحدِّد ما إذا كانت عُمان ستنجح في التحوّل إلى اقتصاد ما بعد النفط في السنوات والعقود المقبلة. كذلك، تولّى السلطان الجديد عدداً من المناصب المهمة في وزارة الخارجية بين عامَي 1986 و2002، حيث عمل أميناً عاماً لوزارة الخارجية، ثم وكيلاً للشؤون السياسية في الوزارة، كما عمل وزيراً مفوضاً فيها، قبل أن يصبح وزيراً للتراث والثقافة عام 2002.

مات السلطان... عاش السلطان
تمكّن قابوس من رأب صدوع قديمة في دولة ظلَّت منقسمة طويلاً بين داخل تسكنه قبائل محافظة، ومنطقة ساحلية منفتحة على الخارج. وعُرف بين أبناء شعبه بـ«صانع النهضة» بعدما استثمر مليارات الدولارات مِن العائدات النفطية في البنية الأساسية، وذلك بعدما بدأ عهده بإخراج عمان من عزلتها. وفي حين أن السلطان الراحل لم يكن ليسمح بانشقاق في الداخل، فقد انتهج سياسة خارجية أساسها الحياد والوساطات: لم يأخذ جانباً في الصراع بين السعودية وإيران، وكذلك الأمر في الأزمة الخليجية، كما كانت مسقط قد احتفظت بالعلاقات مع كلّ من الولايات المتحدة وإيران بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما عام 1979. لكن المهمة الدبلوماسية الأبرز تمثّلت في دور السلطنة في الاتفاق النووي الإيراني، إذ استضافت اعتباراً مِن عام 2013 محادثات سرية بين الأميركيين والإيرانيين، تسبّبت بجفاءٍ بينها وبين الرياض التي لم تكن راضية عن سياستها تلك. أما في العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، فقد كان الودّ هو السمة الطاغية دائماً، إلى حدّ أن قابوس لم يمتنع عن استقبال رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، علناً، عام 2018، في ثاني زيارة يقوم بها مسؤول إسرائيلي إلى مسقط بعد إسحاق رابين في عام 1994.
قابوس، الذي وُلد في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1940 في محافظة ظفار (وهي المحافظة التي أشعلت تمرداً ضدّ والده سعيد بن تيمور عام 1965)، تلقّى تعليمه في المدارس العمانية، قبل أن يُرسله والده للدراسة في بريطانيا عام 1958، ما ساهم في تقوية العلاقات بين المملكة المتحدة والأسرة الحاكمة. ودرس لمدّة عامين في أكاديمية «ساندهيرست» العسكرية الملكية، وتخرّج منها عام 1962. وبعد عودته إلى عُمان - وهو الابن الوحيد لوالده - تلقّى عدداً من الدورات التدريبية على أيدي المستشارين البريطانيين الذين كانوا يُسيّرون شؤون السلطنة الفقيرة والمنعزلة دولياً، نتيجة غياب سياسات اقتصادية واجتماعية واضحة، وتكرّر الحروب الأهلية بين السلطان والقبائل الإمامية التي تؤمن بمبدأ انتخاب الحاكم وفقاً للمذهب الإباضي، الذي يعتنقه غالبية العمانيين. شكّل فَشَل السلطان سعيد في احتواء تمرّد ظفار عام 1965 نهاية لهذا الأخير على أيدي ابنه الذي قاد انقلاباً، بمساعدة البريطانيين، انتهى إلى عزل والده عام 1970. رسّخ قابوس مرحلة انتهاء الحرب عام 1975، ليبدأ مشروع «النهضة» على أيدي ثامن سلطان من أسرة آل سعيد التي تحكم البلاد منذ 1744.



نتنياهو سيفتقد «رجل السلام»


أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بسلطان عمان الراحل قابوس بن سعيد، واصفاً إياه بأنه «قائد كبير عمل لنشر السلام والاستقرار في المنطقة». وفي بيان صدر عن مكتبه، قدم نتنياهو «التعازي إلى شعب عمان» بوفاة السلطان، مهنئاً، في الوقت ذاته، السلطان الجديد هيثم بن طارق بتعيينه خلفاً لابن عمه. ورحّب بكَون «عُمان مستمرّة في سياستها الخارجية»، مذكّراً بالزيارة التي قام بها إلى السلطنة قبل أكثر من عام بناءً على دعوة قابوس، باعتبارها كانت «بالغة الأهمية وقد عرض فيها (قابوس) مساعدته لتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة».