لا يزال ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، منذ قتل الصحافي جمال خاشقجي، يتجنّب زيارة الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة، لسبب وحيد: لا أحد يرحّب باستضافته. لا قرار بمنع الزيارة، لكن بالتأكيد لا راغبين فيها، حيث يفضل الجميع تجنب إثارة السخط من جديد. لذا، يُشاهَد ابن سلمان منذ أشهر وهو يجوب الدول العربية والآسيوية. قطع الرجل شوطاً في ترميم العلاقات مع الأميركيين، والتي اهتزّت إثر مقتل خاشقجي، حتى اضطر إلى استبدال سفير بلاده لدى واشنطن، شقيقه خالد، بريما بنت بندر بن سلطان. لم يغلق الملف تماماً، على رغم ضمان ابن سلمان وقوف ترامب إلى جانبه. إلا أنه يدرك أن النقمة عليه في المؤسسات الأميركية كبيرة، وهي تظهر بجلاء في الكونغرس والإعلام، معيدة طرح السؤال التاريخي حول طبيعة العلاقة بين البلدين المبنية على «المصالح لا القيم»، وهي عبارة تكررها الحكومات الأميركية المتعاقبة لتبرير سكوتها عن سياسات الرياض حين لا تعجب الرأي العام الأميركي. ذلك في موازاة سؤال خاص بابن سلمان وأهليته كحليف إقليمي أساسي. في المقابل، ينجح أمير قطر اليوم، لا في زيارته واشنطن وتظهير متانة العلاقات مقابل أزمة ابن سلمان فحسب، بل في طيّه فصلاً حساساً من فصول الأزمة الخليجية، والمتمثل في انحياز الإدارة الأميركية الحالية للإمارات وأبو ظبي.
طوت الزيارة فصلاً حساساً من فصول الأزمة الخليجية

منذ اليوم الأول للأزمة الخليجية، شعر القطريون بأن الحملة ضدهم بهذا الحجم وبهذه الصورة ما كانت لتتم لولا ضوء أخضر أميركي. استغل اللوبي الإماراتي في واشنطن عداء فريق إدارة ترامب للتيارات الإسلامية وتشددها تجاهها، وكذلك عداء هذه الإدارة لكل سياسات باراك أوباما الخارجية، التي كان من ضمنها التقارب مع «الإخوان» في فترة «الربيع العربي». لكن اختلاف المؤسسات الأميركية ظهر سريعاً في تناقض مواقف «البنتاغون» والخارجية والرئيس، ولم تحتج الدوحة إلى الرهان على رئيس ديمقراطي جديد يفك تحالف ترامب ــــ كوشنر ــــ ابن زايد ـــ ابن سلمان، ولو كانت لا تزال تفضل رئيساً من هذا النوع. اتخذت الدوحة جملة قرارات لمواجهة «الحصار»، كان أهمها تفعيل عمل جماعات الضغط في الولايات المتحدة وصولاً إلى اللوبي الإسرائيلي الناشط هناك. كشف تراجع قناة «الجزيرة» حينها عن بث الفيلم الوثائقي «اللوبي» (اللوبي الإسرائيلي في أميركا ــــ نشره موقع «الأخبار» لاحقاً بالاشتراك مع موقع «شرق XXI» وموقع «إلكترونيك انتفاضة»)، المسعى القطري للاستفادة من قوة جماعات الضغط الإسرائيلية، إذ تبين أن عدم بث الفيلم مرده تفاهمات قطرية مع هذه اللوبيات تمت بموجبها جملة مقايضات بينها الفيلم، لدعم الدوحة في مواجهة ما تتعرض له.
أزمة خاشقجي شكّلت فرصة ذهبية للقطريين لتوجيه ضربتهم لابن سلمان المشوّشة صورته في الولايات المتحدة والغرب عموماً، أو على الأقل فرصة لاستثمار الورطة السعودية. صغر حجم الإمارة الخليجية مع ثروتها الغازية الهائلة يمنحها ربما «رشاقة» لا تتوافر في دولة كبيرة وحساسة كالسعودية، يصعب عليها غسل أخطائها سريعاً. وإضافة إلى محاولة القطريين أمام الأميركيين والجميع إثبات أنهم الأكثر عقلانية ونجاحاً وفائدة في «التحالف» مع الأميركيين من حكام الرياض المتهورين، لعبت الدوحة اللعبة السعودية نفسها؛ شراء الموقف الأميركي بالصفقات والمليارات. كان الأبرز في ذلك قيام وزير الدولة لشؤون الدفاع القطري خالد العطية، مع القائد الجوي الأميركي في قاعدة «العديد» الجنرال جيسون أرماغسوت، بوضع الحجر الأساس لتوسعة القاعدة الأميركية في حزيران/ يونيو من العام الفائت. وخلال الفترة الماضية، عادت الدوحة إلى نشاطها في لعب دورها السابق كوسيط مع حركة «طالبان» الأفغانية، وهو دور لم ينجح الإماراتيون، على رغم محاولاتهم، في سحبه من جيرانهم.
توّجت زيارة أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، هذه «النجاحات». وفي المقارنة بين زيارتي ابن سلمان وابن حمد، إلى البيت الأبيض، بدا الأخير أكثر ثقة بما يقوم به، إذ بادر إلى طمأنة ترامب بأن ميزان التبادل التجاري بين البلدين مكسور لصالح واشنطن. لكن من المنظور الأميركي، فإن النتيجة واحدة، وهي على قاعدة ترامب «Take their money Chuck» (خذ أموالهم...) وفق تعبيره قبل أيام؛ التعامل مع مشيخات الخليج كبئر بليونات ووظائف تُبتزّ في أمنها وعروشها، وكمقر للقواعد العسكرية، البحرية والجوية، تبنى بأموال «المضيف». وفي المحصلة، أثبت الأميركيون أنهم الأكثر استفادة من «شقاق الأشقاء» الذي رمى بهم في ماراثون كسب ودّ السيد الأميركي.