تدخل قضية مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، منعطفاً حاسماً، مع إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن بلاده ستصدر في غضون يومين خلاصتها النهائية بشأن الواقعة. خلاصة لا تشي المواقف التي أدلى بها ترامب خلال الساعات الماضية بأنها ستنحي باللوم على ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، على رغم توصّل وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) إلى مسؤولية الأخير عن اغتيال خاشقجي. وهو اتهام لا شكّ في أنه أُلقي على طاولة ترامب منذ زمن، لكن الرئيس وفريقه يريدان كسب المزيد من الوقت من أجل بلورة موقف لا يضرّ بالعلاقة مع «الحليف الرائع». إلا أن هذا الموقف، الذي يحرص ترامب أشدّ الحرص على الخروج به، يبدو محاطاً بالمخاطر والتعقيدات، في ظلّ انقسام الإدارة حول كيفية التعامل مع القضية، وميل كتلة وازنة في الكونغرس إلى توجيه أصابع الاتهام لابن سلمان ومحاسبته على الجريمة.وضاعف ترامب، في مقابلة مُسجّلة أذيعت أمس، علامات الشكّ التي رسمها السبت حول تقرير «سي آي إيه»، بوصفه الأخير بأنه «سابق لأوانه جداً، لكنه ممكن». إذ أجاب سؤالاً حول ما إذا كان ولي العهد قد كذب عليه بالقول إنه «لا يعرف»، وإنه «لا أحد يمكنه معرفة ذلك»، في تلميح إلى استحالة الوقوف على حقيقة مَن أَمر، وتقليلٍ من شأن التقارير الجازمة بتجريم ابن سلمان، الذي حرص الرئيس مجدداً على تصدير تبرئة ضمنية له، عندما نقل عنه أنه «لا علاقة له بما حدث. قالها لي ربما خمس مرات في مناسبات مختلفة، بما في ذلك منذ أيام»، متابعاً أن «كثيراً من الشخصيات» قالت الأمر نفسه أيضاً. وفي إشارة إلى أن الإدارة تريد الاكتفاء بالخطوات التي اتخذتها إلى الآن وعدم الذهاب إلى أبعد منها، ذكّر ترامب بأن الولايات المتحدة فرضت عقوبات مالية على مسؤولين سعوديين، مُتبِعاً ذلك بتكراره وصف السعودية بأنها «حليف رائع»، وتأكيده «(أنني) أريد أن أبقى مع حليف كان ممتازاً في أشكال عدة»، في تمسّك متجدد ببقاء ابن سلمان على رأس السلطة في المملكة.
هذا التمسّك كان ترامب قد أعلنه أيضاً أول من أمس، لافتاً إلى أن السعوديين «كانوا حليفاً رائعاً بحقّ، في ما يتعلق بالوظائف والتنمية الاقتصادية»، مضيفاً «(أنني) بصفتي رئيساً، ينبغي أن أضع الكثير من الأمور في الحسبان»، ما يعني أن المصالح القائمة بين البلدين ستظلّ متقدمة على أي اعتبار آخر، الأمر الذي جزم به كذلك مسؤولون أميركيون آخرون رفيعو المستوى. إذ قال رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، جوزيف دانفورد، إن «السعودية كانت في السابق شريكاً مهماً للأمن الإقليمي، وأتوقع أن يكونوا كذلك في المستقبل»، معتبراً المملكة «قوة استقرار في المنطقة». وأشار نائب الرئيس، مايك بنس، من جهته، إلى أن بلاده تريد إيجاد وسيلة للحفاظ على «شراكة قوية وتاريخية» مع الرياض. كلها مواقف وتصريحات تصبّ في اتجاه العمل على لفلفة القضية وفق صيغة ما، قد لا تقفز ـــ في سقفها الأعلى ــــ عن نظرية «القتلة المارقين» التي أطلقها ترامب في بدايات الأزمة، وأعاد التسويق لها قبل يومين، عندما أشار إلى أنه «كان لديه (أي ابن سلمان) بالفعل أشخاص قريبون منه... وهم متورطون على الأرجح...».
وعلى رغم أن جهات أساسية في الإدارة، كالخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي، تساند ترامب في محاولته إبرام «الصفقة» تلك، إلا أن ثمة في الوقت نفسه أطرافاً أخرى تعارض على ما يبدو عملية التستّر على دور ابن سلمان في حادثة القنصلية، وقد يؤدي ضغطها المضادّ إلى عرقلة جهود الرئيس وفريقه. في هذا الإطار، جاءت تسريبات الـ«سي آي إيه»، التي تُعدّ قطباً رئيساً في «الاستبلشمنت» الأميركي، إلى صحيفة «واشنطن بوست» حول توصّل الاستخبارات الى نتيجة مفادها أن ابن سلمان هو مَن أمر بقتل خاشقجي، في تعارض واضح مع كلّ ما أدلى به الرئيس ومؤيّدوه إلى الآن. وفي الاتجاه نفسه، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز»، أمس، أن المسؤولة عن تنظيم السياسات المتصلة بالعلاقات مع السعودية، كريستين فونتينروز، والتي حاولت الدفع باتجاه اتخاذ موقف صارم من قضية خاشقجي، قدّمت استقالتها من عملها، بعدما ولّدت محاولاتها هذه استياءً داخل البيت الأبيض. أما على مقلب الكونغرس، فإن تياراً من الجمهوريين والديموقراطيين على السواء يسعى إلى إفشال خطط الرئيس لـ«حفظ رأس» ابن سلمان، والعمل على اتخاذ إجراءات أكثر حزماً تجاه السعودية. ويوم أمس، جدّد السيناتور المقرّب من ترامب، لينزي جراهام، تأكيده أن ولي العهد متورّط في قتل خاشقجي، قائلاً إن «السعودية حليف مهم، لكن عندما يتعلق الأمر بولي العهد فإنه يفتقر إلى الحكمة... وأعتقد أنه أضرّ كثيراً بالعلاقة مع الولايات المتحدة»، مضيفاً إنه «ليس لديّ أي نية على الإطلاق للعمل معه مجدداً».
مشرّعون أميركيون: ابن سلمان مفتقر إلى الحكمة وقد أضّر بعلاقاتنا


هذه الضغوط المتصاعدة لا يظهر ــــ حتى الآن ــــ أن ترامب وفريقه مستعدان للاستسلام أمامها، والكفّ عن مقاومتها. إذ إن الرئيس لا يزال يتصرّف على أساس أنه لا يزال ممكناً الخروج برواية تحفظ ماء الوجه، بالاتفاق مع تركيا. ولعلّ الغزل غير المسبوق الذي توجّه به ترامب، في تصريحاته الأخيرة، إلى نظيره التركي رجب طيب إردوغان، يخدم هذا التصور. وَصَف ترامب، إردوغان، بأنه «رجل قوي وصلب وذكي»، مؤكداً «(أنني) على تفاهم جيد جداً معه». وعلى رغم أنه نفى أن يكون ترحيل الداعية التركي فتح الله غولن من الأراضي الأميركية موضوعاً «قيد البحث»، إلا أنه أكد «(أننا) نحاول دائماً التوصّل إلى ما يمكننا أن نفعله من أجل تركيا»، في تأكيد للحديث عن أنه يريد استرضاء الأخيرة، والذي لا يبدو دونما دلالة في ظلّ احتدام أزمة خاشقجي. في خضمّ ذلك، بدا لافتاً أمس تراجع تركيا عن الرواية التي كانت قد ساقتها بشأن مصير جثة الصحافي المقتول، والتي تحدثت فيها عن أن الجثة أذيبت بأحماض كيميائية. وقال وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، على هامش مؤتمر دولي في كندا، إن «هناك احتمالاً بأن يكون القتلة قد غادروا البلاد بعد ثلاث أو أربع ساعات من ارتكاب الجريمة، وربما أخذوا أجزاء الجثة معهم في حقائب، من دون أن يواجهوا مشكلات بسبب حصانتهم الدبلوماسية».