وأخيراً اعترفت الرياض بقتل جمال خاشقجي. اعتراف انتظر على ما يبدو اكتمال صيغة الصفقة الثلاثية مع واشنطن وأنقرة. السعودية بعد كل التسريبات عن طريقة قتل مواطنها في قنصلية بلاده، قالت ببساطة تامة إنه «توفّي نتيجة شجار» ناجم عن «مناقشات» في القنصلية. مسألة لن تعلّق عليها أنقرة وواشنطن إن كانتا حقاً شريكتين في «التسوية»، وليكون «السرّ» اليوم في الإجابة على سؤال: «بماذا وعد الملك سلمان أردوغان وترامب في مقابل حفظ رأس ولده واستقرار مملكته؟».وعلى دماء خاشقجي وجثته المختفية، قدّم الملك السعودي شمّاعة ووضعها في قفص التحقيق والعزل. شماعة عنوانها العام الاستخبارات وعدد من قيادييها بالإضافة إلى الاسم البارز سعود القحطاني، المستشار في الديوان الملكي والمقرّب من وليد العهد.
في النتيجة، الجميع ينتظر ردّ الفعل التركي في ما يخص «التحقيق السعودي»، وقد لا تحتاج المسألة إلى أكثر من 48 ساعة ليظهر «تطابق» التحقيقيْن وتأكيد «الصفقة الكبرى»... وإمّا تفجير تركي لكل الرواية السعودية وعودة محمد بن سلمان إلى واجهة القتلة الواجب تنحيتهم.
فجر اليوم، ظهر «دخان» المَخرج المنتظر في قضية اختفاء جمال خاشقجي. اعتراف رسمي سعودي بقتل الصحافي «المنشق»، ثم جملة من الأوامر الملكية تضع الاستخبارات السعودية ورجالها في قفص الاتهام، وتبعد أصابع الاتهام عن ولي العهد محمد بن سلمان، عبر تكليفه بمعاقبة القتلة! الرياض، ببيان نقلاً عن «النائب العام» في المملكة، كشفت أن خاشقجي قتل في شجار مع الذين قابلوه في قنصلية بلاده في إسطنبول. ثم كرّت سبحة الإعفاءات لتطاول المستشار في الديوان الملكي سعود القحطاني ونائب رئيس الاستخبارات العامة أحمد عسيري ومساعديّ رئيس الاستخبارات العامة للموارد البشرية اللواء عبدالله بن خليفة الشايع ولشؤون الاستخبارات اللواء محمد بن صالح الرميح.
ما عمل عليه الرئيس دونالد ترامب من خلال تجنّب التصويب على ولي العهد محمد بن سلمان ظهر مع تكليف الملك لابنه بتشكيل لجنة وزارية برئاسته «لإعادة هيكلة رئاسة الاستخبارات العامة... وتحديد صلاحياتها والتسلسل الإداري والهرمي بما يكفل حسن سير العمل وتحديد المسؤوليات».
وما يعزّز من فرضية المخرج/ الصفقة ذات الغطاء الأميركي، اتصال الملك سلمان بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان واتفاقهما على «أهمية مواصلة العمل سوياً في تعاون تامّ». ثم جاء بيان وزارة الخارجية السعودية ليشير إلى أنّ «معلومات السلطات التركية حول مشتبه فيهم قادت للوصول إلى تفاصيل الحقيقة في شأن وفاة خاشقجي»، ولـ«نثمن تعاون تركيا المتميز والتي ساهمت جهودها بشكل هام في مسار التحقيقات».
جملة إعفاءات طاولت المستشار في الديوان الملكي سعود القحطاني ونائب رئيس الاستخبارات أحمد عسيري


الكرة من اليوم، إذاً، في ملعب أنقرة إذ بيدها نسف كل الرواية السعودية الضعيفة أصلاً، خصوصاً في ما يخص طريقة قتل خاشقجي وما سرّب عن تعذيبه والتنكيل بجثته. لكن اليومين الأخيرين كانا حافلين بتصريحات تركية رسمية تطلب «الابتعاد عن التسريبات السابقة» و«انتظار انتهاء التحقيق الرسمي». كما أن البيان السعودي لا يمكن وضعه في إطار إلقاء الحجة ورفع المسؤولية وعدم تنسيقه مع الجانب الأميركي (والتركي ضمناً)، وإلا سيشكّل فشلاً سياسياً مدوياً يضاف إلى الفشل الاستخباري والدبلوماسي بعد عملية قتل خاشقجي.
وفي تفاصيل بيان «المصدر الرسمي» نقلاً النائب العام السعودي حول التحقيقات، فهو أكد أن «المناقشات التي تمت بين خاشقجي وبين الأشخاص الذين قابلوه أثناء تواجده في قنصلية المملكة في إسطنبول أدت إلى حدوث شجار واشتباك بالأيدي، وتفاقم الأمر مما أدى إلى وفاته ومحاولتهم التكتم على ما حدث والتغطية على ذلك». وأشار، بحسب وكالة الأنباء السعودية، إلى أن «التحقيقات مستمرة مع الموقوفين على ذمة القضية وعددهم حتى الآن 18 شخصاً جميعهم من الجنسية السعودية، تمهيداً للوصول إلى كافة الحقائق وإعلانها، ومحاسبة جميع المتورطين وتقديمهم للعدالة».
يأتي ذلك بعدما تزايدت، نهار أمس، المؤشرات إلى تغيّرات محتملة في منظومة الحكم في السعودية على خلفية قضية خاشقجي، أو على الأقل تبدلات موضعية ومرحلية تزيح ولي العهد الشاب من المشهد ريثما تنتهي الزوبعة المحيطة بالمملكة، وبعد أن بات التوصل إلى «تسوية» تحفظ ماء وجه الرياض مفتوحاً في ظلّ إعلان أنقرة أنها لم تسلّم أي دليل على مقتل خاشقجي إلى واشنطن، ودفع الدوائر المُقرّبة من ترامب نحو إيجاد مخرج ينقذ محمد بن سلمان من مأزقه.
ويتعارض «الأمر الملكي» فجر اليوم مع ما سرّبته وكالة «رويترز»، أمس، عن «مصدر سعودي على صلة بالديوان الملكي»، بأن الملك سلمان يسعى إلى تقييد صلاحيات نجله السادس، خصوصاً أن «مستشاري الملك شعروا بالإحباط في الفترة الأخيرة، وبدأوا يحذرونه من أخطار ترك سلطات ولي العهد بلا ضابط».
هذا الخيار والتسريبات المتتالية التي تضع ابن سلمان في موقع المذنب لم تكن مستساغة أميركياً. إذ، على رغم توعّد ترامب بعواقب «بالغة الشدة» بما يوحي بإمكانية رفع الغطاء عن ابن سلمان، إلا أن إدارته أبدت تمسّكاً بشخص محمد. تمسّك أوحى به، أمس، حديث مصدر مقرب من البيت الأبيض إلى صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية عن أن مستشار الرئيس وصهره، جاريد كوشنر، «يحثّه على الوقوف إلى جانب الأمير محمد»، انطلاقاً من قناعة بـ«قدرة ولي العهد على النجاة من الغضب الدائر كما تجاوز النقد في السابق». من هنا، عاد الحديث ليتركّز حول مساعي الدفع بـ«شمّاعة» إلى واجهة المشهد، من أجل إلصاق الجريمة بها، مع ما يتطلّبه الأمر من تخفيف من حدّة التسريبات التي تمحورت جميعها حول شخصيات مُقربّة من ابن سلمان.
هذه المساعي أعاد الرئيس الأميركي، أمس، التلميح إليها، بقوله إن وزير خارجيته، مايك بومبيو، «لم يتسلّم أو يطّلع أبداً على نص أو تسجيل مصوّر في شأن حادث القنصلية السعودية في إسطنبول». وهو ما يوافق ما كان أعلنه، في وقت سابق، وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، من أن بلاده لم تُسلِّم بومبيو أو أي مسؤول أميركي آخر أي تسجيلات من هذا القبيل، قائلاً إن «مشاركتنا أي معلومة مع أي دولة أمر غير وارد». توافق أنبأ بأن ثمة تفاهماً ضمنياً أميركياً - تركياً على منح السعودية الفرصة لترتيب «المخرج» المناسب من ورطتها، في «صفقة» تأتي على رأس أحد أزلام ابن سلمان، وهذا ما فعلته الرياض فجر اليوم. وتصدّر قائمة «أكباش الفداء» الناطق السابق باسم تحالف العدوان على اليمن، أحمد عسيري الذي يشغل منصب نائب رئيس الاستخبارات العامة السعودية راهناً، وهو الذي سبق أن طرحت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية اسمه في إطار حديثها عن «خطة سعودية لحلّ أزمة خاشقجي»، لافتةً إلى أن «شخصاً مُقرّباً من البيت الأبيض تمّ إبلاغه بفحوى الخطة (المذكورة)، وتم إعطاؤه اسم اللواء عسيري». ويعتقد واضعو الخطة أن اسم عسيري - كمسؤول عن جريمة القنصلية - سيلقى قبولاً، نظراً لأقدميته ورتبته، و«سعيه لإثبات نفسه استخباراتياً في قضية خاشقجي»، وفق ما نقلت الصحيفة عن مصادر مطلعة.