كلما ظنّ المتابعون أن الأمير السعودي الشاب اكتفى بتجميع السلطات في قبضته، يخرج الأخير من خلف ختم والده الملك ليؤكد أن المناصب التي ضمّها إلى سلطانه لا تشبع ولي العهد والملك الفعلي للبلاد. بالقرارات الأخيرة، يكون محمد بن سلمان قد أتعب أيّ طاغية يأتي بعده في تحطيم الرقم القياسي لحجم الاستحواذ على السلطات والنفوذ. الأخطر بين طيات الأوامر الملكية الأخيرة، الممهورة بتوقيع الملك سلمان، والحاملة بصمات ابنه ولي العهد، أنها تكشف عن عدم استقرار تعانيه قصور آل سعود. قرارات تُشتَمّ منها رائحة الدسائس وحياكة المؤمرات لدى من تبقى من أجنحة تحسد آل سلمان وتكتم غيظها على أمرائهم، وهي تنازع سكرات الملك، بعدما جُرّد معظم أكابر العائلة المالكة وأنجال عبد العزيز وأولادهم من السلطة وأسباب القوة.فعقب غياب دارت حوله شبهات كثيرة، خرج ولي العهد برزمة أوامر جديدة، أثبتت أن المُلك الذي يشيّده لنفسه لم يرسُ على برّ الاستقرار بعد طول انقلابات أزاحت المناوئين وحاصرت المنافسين. توارى الأمير عن الأنظار لأسابيع، تاركاً قصور المُلك في الرياض، واتجه إلى جدة وبحرها، حيث خاض جولة تأمل مطولة، بعد مرور عام على إطاحته وليّ العهد السابق محمد بن نايف، وما مرّ في هذه السنة من استحقاقات، أهمها الاتفاقات الجديدة مع الأميركيين. ومن ثم قطع الأمير صيامه عن التصريح والظهور الإعلامي بالعودة إلى متابعة ملف الحرب على اليمن، وإحداث ترتيبات جديدة في منظومة الحكم داخلياً.
يُعدّ قرار «المحميات الملكية» من أكثر القرارات الصادمة للرأي العام


أثبت ابن سلمان أن قراراته الأخيرة تنمّ عن شعور عميق بالخوف وعدم الثقة بمن حَوله من المسؤولين والقادة، وذلك عبر اتباع الأسلوب التقليدي في إيهام الرأي العام، إذ تعمّد، في موازاة الأوامر الملكية، تسريب شريط مصور لزيارة قام بها إلى قصر ولي العهد الأسبق، عمّه مقرن بن عبد العزيز، في محاولة للقول إن الصراعات داخل العائلة الحاكمة قد أخمدت، وإن الوئام والانسجام عادا ليحكما علاقات أجنحة آل سعود. ومن قصر مقرن، عاد ابن سلمان ليكرر مشهد تقبيل يد ابن عمه محمد بن نايف، وانحنى لتقبيل يد عمه الذي أطاحه قبل عامين، وسط عبارات الترحيب والتبجيل. مشاهد تعيد طرح الأسئلة حول استقرار البيت الحاكم، بعدما ظن المتابعون أن الأمر قضي، واستقرت الأوضاع خلف أسوار القصور، وسلّم الجميع باستتباب الأمر لسلمان وولده.
وبالعودة إلى الأوامر الملكية، فقد جاءت القرارات لتقول إن مصير المملكة معلّق بشخص ابن سلمان، وكل شيء هنا يصبّ في إطار دعم برنامجه الخاص لمستقبل المملكة. حتى إن الأراضي المقدسة، ورغم أن الملك يحمل لقب «خادم الحرمين الشريفين»، باتت تحت سلطة ولي العهد، الذي خصّ نفسه بإدارة «هيئة ملكية» لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة، مضيفاً منصباً معنوياً إلى مناصبه الكثيرة، يتيح له الإشراف المباشر على الأراضي المقدسة. وتطبيقاً لطموح ابن سلمان في إصلاح الإعلام السعودي وتطويره، فُصلت وزارة الإعلام عن الثقافة التي باتت لها وزارة خاصة وُلّيت لصديق ولي العهد، الأمير بدر بن عبد الله آل سعود، وسيط صفقة ابن سلمان في شراء أغلى لوحة في العالم (مخلص العالم). كذلك شملت التعديلات وزارة الشؤون الدينية التي أُسندت إلى عبد اللطيف بن عبد العزيز آل الشيخ، وهو وإن كان ينحدر من عائلة محمد بن عبد الوهاب، إلا أنه يُعدّ من أبرز الداعمين لسياسات ولي العهد، ويعرف عنه عداؤه الشديد لتركيا وقطر و«الإخوان المسلمين».
وإلى جانب جملة تعيينات إدارية ووزارية دفعت بشبان مقرّبين وموالين لابن سلمان إلى مناصب عدة، برز قرار إنشاء «المحميات الملكية» وإقرار هيئة لإدارتها برئاسة ابن سلمان أيضاً. وبذلك يكون الأخير قد سيطر على ما يزيد على 12% من مساحة أراضي المملكة. ويُعدّ هذا القرار من أكثر القرارات الصادمة للرأي العام السعودي، إذ يأتي بعد كل مزاعم الإصلاح ومحاربة الفساد في البلاد، وبعد معاناة طويلة مع أمراء آخرين استأثروا بما عرف إعلامياً بـ«الشبوك»، وهي أراضٍ بيضاء وضع الأمراء أياديهم على كثير منها. وقد خصّ ابن سلمان نفسه بإطلاق اسمه على محمية ساحلية تقع بين مشروعيه، «نيوم» ومشروع البحر الأحمر، غربي البلاد.