تدهور الوضع الأمني في عدد من مدن إقليم كردستان العراق، وسقط عشرات الجرحى من المتظاهرين ورجال الشرطة على خلفية أحداث بدأت يوم الجمعة الماضي، حين هاجم متظاهرون، قيل إنهم إسلاميون، محالّ لبيع الخمور ومراكز طبية للتدليك وصالونات للحلاقة وفنادق سياحية في مدينة زاخو قرب الحدود مع تركيا. أحداث تحولت إلى شغب وعنف، سرعان ما امتدّا إلى محافظة دهوك المجاورة، فكانت حصيلة الاشتباكات إحراق 36 محلاً لبيع الخمور وأربعة فنادق كبيرة تضمّ نوادي ليلية ومراكز آسيوية ومحلية للتدليك والحلاقة، وامتدت بعدها إلى مركز محافظة السليمانية شرقاً.
وقد أفاد شهود عيان بأنّ الأحداث بدأت حين تجمّع نحو خمسين شاباً خرجوا من مساجد زاخو بعد أداء صلاة الجمعة، وأخذوا يرددون شعارات معادية لما وصفوه بالإباحية والفساد. وعندما ازدادت أعدادهم، شرعوا بمهاجمة تلك المحال والمراكز. بدورها، كشفت فضائية «شعب كردستان» أن التظاهرة المذكورة خرجت بسبب خطبة تحريضيّة ألقاها أحد أئمّة المساجد. وأكّد أحد ممثلي تجمُّعات الكلدان والآشوريين أن الوضع في زاخو أصبح خارجاً عن السيطرة تماماً عصر ذلك اليوم، وقال نائب رئيس «المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري»، جونسون سياويش، إن «اجتماعاً طارئاً لتجمع التنظيمات السياسية لشعبنا يعقد الآن لتدارس الوضع وطلب تدخل قوات الجيش والأمن للسيطرة على الوضع، قبل أن يزداد سوءاً لأن الأمر مقلق جداً». وفي اليوم التالي، أي السبت، انطلقت تظاهرات حاشدة لكنها مضادة هذه المرة لتظاهرات الإسلاميين في عدة مدن كردية؛ ففي زاخو، التي بدأت فيها الأحداث، حيث أطلق عليها كثيرون اسم «غزوة زاخو»، خرج المئات في تظاهرة هاجمت مقارّ حزب «الاتحاد الإسلامي الكردستاني» وأحرقت أربعة منها، إضافة إلى تدمير وإحراق محطة تلفزيون تابعة لهذا الحزب. الإسلاميون، وتحديداً حزب الاتحاد الإسلامي الكردستاني، تبرّأوا من هذه الأحداث، ونفوا مسؤوليتهم عنها، لكن نفيهم هذا لم يقنع كثيرين في الجهة المقابلة. تصعيد دفع برئيس الإقليم مسعود البرزاني إلى زيارة زاخو فجأةً، واجتمع بالسلطات الحكومية هناك لمناقشة أبعاد الأزمة. واتّهم البرزاني رجال الدين علناً بتحريض الشباب على أعمال العنف، وتوعّد بمعاقبة المسؤولين والمشاركين في الأحداث بشدة، لكن مسؤولين في وزارة الأوقاف التابعة لحكومة الإقليم رفضوا اتهامات البرزاني، وقالوا إنهم «رجال دين يعملون على نشر ثقافة السلام وقبول الآخر وعدم الاستفزاز». كما قرر البرزاني أيضاً وضع ميليشيات البشمركة في حالة إنذار قصوى، وحاول طمأنة أبناء الطائفة المسيحية الذين تضرروا وأُحرقت محالهم واستبيحت أحياؤهم. كما تم اعتقال نحو عشرين شخصاً من أعضاء «الاتحاد الإسلامي»، بينهم رئيس كتلته البرلمانية. ولأنّ العادة السارية في المنطقة حالياً تقوم على اتهام الخارج بأي حدث داخلي، فقد اتهم القيادي البارز في «التحالف الكردستاني»، محمود عثمان، دولاً إقليمية بالوقوف وراء أعمال العنف في الإقليم، وسمّى دولتين هما: تركيا وسوريا تحديداً. ورأى صحافيون عراقيون أنّ حملة الاعتقالات التي شنّتها أجهزة الأمن خلال الأحداث وبعدها كانت عشوائية، بدليل أن وزير داخلية الإقليم كريم سنجاري خرج على الملأ يوم الاثنين ليعلن أن وزارته «تعمل بأقصى جهدها من أجل القبض على المتورّطين بالأحداث الأخيرة في زاخو ودهوك واعتقال العناصر الذين حاولوا أن يزعزعوا الوضع الأمني في إقليم كردستان». وأضاف سنجاري إن «كل دوائر ونقاط التفتيش الخاصة بالبشمركة والشرطة تبلّغت باعتقال المتورطين وإحالتهم إلى القضاء كي ينال هؤلاء جزاءهم العادل». كلام يُفهم منه أن المتورطين في الأحداث لا يزالون أحراراً، وهو ما دفع ببعض المحللين إلى الاستنتاج بأن الأوضاع الأمنية لم تستتبّ تماماً في مدن الإقليم بعد، محذرين من أن موجة جديدة من أعمال العنف قد تبدأ في أي وقت، إلا أنهم سجّلوا في الوقت نفسه محدودية الاستهداف الموجّه ضد أبناء الأقليات المسيحية واليزيديين لأنه استهدف خصوصاً محالهم، ولم يستهدف، لحسن الحظ، أرواحهم. وبالنسبة إلى التداعيات السياسية لأحداث زاخو، كشفت صحيفة «لفين» الناطقة بالكردية، في عددها الصادر يوم الاثنين، أن رئيس حكومة الإقليم برهم صالح قدّم استقالته للبرزاني على خلفية الأحداث، مستبقاً الموعد الرسمي لتقديم الاستقالة بشهر تقريباً، لتؤول رئاسة الحكومة إلى حزب البرزاني مثلما نصّ عليه اتفاق سابق موقّع بينه وبين حزب الطالباني.
غير أنّ ما حدث ترك تأثيراً سلبياً عميقاً بسبب النظرة السائدة عن كردستان العراق كواحة للأمن المستقر والتسامح واحترام حقوق الإنسان في خضم الفوضى الدموية التي جاء بها الاحتلال إلى العراق. ولدى تحليل الدوافع والأسباب والجهة المستهدفة بما حدث، خلص محللون إلى أنّ المستهدف لم يكن أبناء الأقليات الدينية أو الإثنية فحسب، بل ثنائي الحزبَين الحاكمين، «الاتحاد الوطني» و«الديموقراطي الكردستاني». تحليل رفضه محمود عثمان، مذكّراً بأنّ المؤسّسات التي ضُرِبَت وأُحْرِقَت «تعود في معظمها إلى يزيديين ومسيحيين، وهي المرة الأولى التي تتعرض فيها مصالح هؤلاء للعنف والاعتداء في الإقليم». وشدد عثمان على أن «ما حدث لم يكن عفوياً ولا وليد صدفة، ويجب معاقبة من يقف وراء هذه الأحداث بعد إجراء تحقيق مستقل ودقيق لتوضيح تفاصيل الحادث للجميع». ورأى محللون أن حجج عثمان وجيهة، وأشاروا إلى أنه كان يلمح إلى أن الهدف من الأحداث هو ضرب تجربة التعايش بين الأقليات والأغلبية الكردية، بعدما ضُربت تجربة التعايش الأعرق والأهم في عموم العراق بين الغالبية العربية المسلمة والأقليات بواسطة تفجيرات وعمليات تنظيم «القاعدة» وحلفائها ومن ورائهم الاحتلال واستخباراته.



نسخة كرديّة من «الربيع العربي»


كان للمعارضة القومية الكردية، ممثلةً بحركة «كوران ـــــ التغيير» والمنشقّة عن حزب الرئيس جلال الطالباني، رأي مغاير من الأحداث، إذ ربط لطيف مصطفى، القيادي في الحركة والنائب عنها في البرلمان الكردي، بين أحداث كردستان الأخيرة وأحداث «الربيع العربي»، غامزاً من قناة وجود مشاكل وأزمات حقيقية ومتراكمة يعانيها الناس في الإقليم، كالبطالة والفساد الإداري والمالي، ليحذّر حكومة الإقليم من اتساع الأحداث وامتدادها إلى مناطق أخرى إذا لم تضع حلولاً لتلك المشاكل، وتحقِّق الوعود التي أطلقتها قبل فترة. أما الصحف الكردية المعارضة، فقدّمت تفسيراتها الخاصة للأحداث، إذ نقلت صحيفة «هولاتي» عن مصادرها الخاصة أن «السبب وراء اندلاع أعمال العنف في زاخو يعود إلى صراع بين مسؤولَين اثنين في الحزب الديموقراطي الكردستاني» (حزب البرزاني)، وأن هناك مشاكل بين صاحب مركز التدليك في زاخو المقرب من الرئيس السابق لحكومة الإقليم نيجيرفان البرزاني، وبين مسؤول آخر». وأكّدت «هولاتي» أن «المسؤول الثاني حرّض إمام الجامع على الدعوة إلى حرق مركز التدليك كفكرة انتقامية»، فاتخذت التطورات منحى خطيراً ومختلفاً في ما بعد.