على الغلاف | عشيّة إكمال قوات الاحتلال الأميركي انسحابها من العراق، طرح الائتلاف الوطني الحاكم في العراق، برئاسة نوري المالكي، مشروع قانون تعديل «اجتثاث» البعث، إضافة إلى تسوية الوضعية القانونية للمحكمة التي قاضت الرئيس صدام حسين ورموز حقبته. إجراءات تحمل في طيّاتها بوادر إرضاء لشركاء في العملية السياسية، كي تكون مرحلة إدارة حقبة ما بعد الانسحاب الأميركي أسهل على المالكي وزملائه. تعديل «البعث» حمل من جهة، جديداً نوعياً على مستوى المعايير القانونية، وأبقى من جهة أخرى قديماً متمثِّلاً في نزعة الانتقام من كل ما يمت إلى «البعث» بصلة، وهو الحزب الذي لا تزال أجنحته وقياداته المتعددة غير مستعدّة للاعتذار إلى شعبها. ولم يعد الاجتثاث السياسي ماركة عراقية مسجلة بفضل الربيع العربي، فقد دخل بقوة في المشهد «الاجتثاثي» كل من تونس ومصر وليبيا، مع بعض الفوارق التي يمليها الوضع الخاص بكل بلد، لكن ظلّ الوضع في العراق مختلفاً تماماً عن أي مكان آخر، إذ إن قرارات «هيئة المساءلة والعدالة» المختصة بهذا الشأن تعد قطعية ونافذة. جديد هذا الملف في العراق هو تقديم مشروع قانون جديد إلى البرلمان تحت عنوان «قانون حظر البعث والأحزاب والأنشطة العنصرية والإرهابية والتكفيرية» لقراءته والتصويت عليه. هذا المشروع تقاطع الإعلان عنه مع تصديق البرلمان على قانون آخر يقضي بتقليص المحكمة الجنائية العليا، التي حوكم أمامها الرئيس السابق صدام حسين ومعاونوه، لتتحول من عدة هيئات ومؤسسات إلى هيئة واحدة، كما جرى فكّ ارتباطها بمجلس الوزراء لتكون علاقتها مباشرة برأس هرم السلطة القضائية، ممثلة بمجلس القضاء الأعلى. القانون الجديد عده عدد من المراقبين بمثابة موافقة متأخرة من تحالف المالكي على أحد مطالب «القائمة العراقية» التي يتزعمها إياد علاوي. وعلى نقيض هذا الفهم، رأى أحد الساسة الأكراد أن القرار «إنصاف لضحايا نظام صدام»، لأنه لم يُلغِ المحكمة تماماً ويصفّيها مثلما طالب أنصار علاوي، بل «رشَّقَها» بلغة النثر السياسي العراقي. مشروع القانون الجديد لا يختلف كثيراً عن المادة السابعة من الدستور العراقي النافذ، وتطبيقاتها القانونية الواردة في «قانون الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة الرقم 1 لسنة 2008» والخاصة باجتثاث البعث، لكنه، كما كتب محللون وسياسيون، أكثر شمولاً وتفصيلاً من تلك المادة النافذة حالياً، إضافة إلى كونه يستهدف تحديداً الأفراد المتهمين بالنشاط ضمن صفوف حزب البعث المنحل، أكثر من استهدافه بنية الحزب الفكرية والسياسية كما قالت إحدى النائبات. هذا الرأي يصطدم بحقيقة أنّ عقوبات القانون الجديد لا تنال من الأفراد الحزبيين فقط، بل هي تتجاوزهم لتشمل كل من يروج لفكر «البعث» وسياساته. والقانون الجديد لا يشمل بمواده حزب البعث غير الموصوف بالصدامي فحسب، بل أيضاً «كلَّ كيان أو حزب أو نشاط أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي أو يحرض أو يمجد أو يروج له». هذه الشمولية في منطوق المشروع، وعدم النسبة في تسمية «البعث» إلى الرئيس السابق صدام حسين، تجعل حتى حزب البعث «اليساري»، المتفرّع من البعث السوري، الذي كان شريكاً لمعارضي الأمس وحكام اليوم في مناهضته لنظام «البعث الصدامي»، وفي حمله السلاح ضده، مشمولاً بالحظر والعقوبات المنصوص عليها. في هذا الصدد، يبالغ بعض المدافعين عن حكم المحاصصة الطائفية في النظر إلى الموضوع، فالكاتب منذر الفضل كتب بصراحة لافتة وعبارات قوية يقول «نعتقد بأنّ تجارب التاريخ أثبتت أنّ حزب البعث، سواء أكان منسوباً إلى صدام، أم تابعاً لميشال عفلق أم لغيره، هو حزب لا يقل في خطورته على الدولة والمجتمع من الفكر النازي، ويجب التعامل معه على هذا الأساس بلا رحمة ولا مجاملة، وبدون الرضوخ للضغوط الخارجية والداخلية». إن هذا النمط من النثر السياسي، كما يعتقد بعض المراقبين، يصدر عن نزعة ثأرية قبلية ليس هدفها البحث عن صيغ قانونية وسياسية تحمي حقوق ضحايا البعث الصدامي، مثلما تحمي حقوق العراقيين من البعثيين الأبرياء غير الصداميين، الذين دفعوا ثمن معارضتهم ورفضهم للنظام السابق، كما دفعتها سائر فئات المجتمع على مدار عدة عقود. أما تشبيه «البعث» وفكره وتجربته في الحكم بالتجربة النازية الألمانية، فليس له أية قيمة علمية، كما يعتقد بعض المتخصصين، وذلك بحكم الفارق الهائل بين التجربتين والحزبين والمجتمعين، ما يجعل هذا الكلام أقرب إلى الشتائم التي يتبادلها المحازبون المتعادون في الشجارات والمشادات الكلامية، كما ينص مشروع القانون الجديد في مادته السابعة على «معاقبة كلِّ من انتمى إلى «البعث» بعد نفاذ هذا القانون، أو روَّج لأفكاره وآرائه في الوسائل كافة، وكل من أجبر أو هدّد أو كسب أي شخص للانتماء إلى حزب البعث بالسجن لمدة تزيد على العشر سنوات». هذا يعني أن القانون ليس له مفعول رجعي تاريخياً، كما كان لقوانين نظام «البعث الصدامي»، الذي كان يحكم على المنتمين إلى حزب «الدعوة الإسلامية» مثلاً بالإعدام، حتى إن انقطعت صلتهم بالحزب المذكور أو طُردوا أو استقالوا منه منذ عدة سنوات، وهو قانون قد يكون غير مسبوق في العالم ربما. نقد مهم آخر صدر عن الناطقة بلسان كتلة «العراقية البيضاء»، النائبة عالية نصيف، التي أشارت إلى أن مشروع القانون «استثنى من الحظر الميليشيات والمنظمات الأخرى». وأعربت نصيف عن مخاوفها من «استغلال القانون من قبل الحكومة لأنه يؤدي إلى أن تصبح لها السلطة المطلقة في أنْ تحظر وتجتث أيّ حزب له فكر البعث الصدامي». بدوره، ردّ النائب حيدر العبادي، من كتلة رئيس الوزراء، على هذه الانتقادات بالقول إنّ «الميليشيات مشمولة في بنود القانون، لكنّ البعض يريد أن يضع اسم الميليشيات في عنوان القانون، الذي لا يحتمل كل التسميات»، لكنَّ العبادي لم يحدد في أيّ بند من بنود القانون شُمِلَت الميليشيات.
على صعيد آخر، يعتقد محلّلون أن ترشيق المحكمة الجنائية العليا التي قاضت صدام حسين ورموز حكمه، وتمرير قانون حظر البعث إلى البرلمان، ليسا إلا دليلاً على أن «الائتلاف الوطني» الحاكم يريد ترسيخ سلطته وتقديم بعض التنازلات السياسية لشركائه، وخصوصاً لـ «القائمة العراقية»، ليتمكن من إدارة ملفات ما بعد انسحاب قوات الاحتلال. متابعون للشأن العراقي أعربوا عن اعتقادهم بأن التصديق البرلمانيّ على هذا المشروع لن يكون سهلاً، مرجّحين ألا يمضي القانون إلا وفقاً لمبدأ التوافقات، أي «الصفقات» والضمانات بين الكتل. يحدث كلُّ ذلك حول «البعث» وبسببه، لكنّ قادة أجنحة الحزب المتعادين لم يخرجوا من حالة الشلل والتجمُّد في تصنيم وتقديس تجربة صدام ونظامه، ولا هم اعتذروا إلى شعبهم عن التجاوزات والجرائم الخطيرة التي ارتكبها ذلك النظام، وهو أمرٌ عدَّهُ كثيرون مبرراً وحافزاً لاستمرار استهداف الحزب وحظره، دون أن ينبري أحد للدفاع عنه.