القاهرة | الثورة المصرية تواصل إبداعاتها. ثورة خيال جديد يقاوم سلطة بلا خيال تقريباً، أو تمتلك خيالاً عاجزاً فقيراً بأحسن الأحوال.
شباب يطوّر أدواته يوميّاً في وجة آلة السلطة القمعية العنيفة. معارك شارع «محمد محمود» كان الشباب يواجهونها بابتكارات جديدة.
وإذا كانت قد استخدمت في الثورة الأولى الخيول والأحصنة لقمع المتظاهرين، فإنها استبدلتها هذه المرة بأقصى أدوات الحداثة: الغاز القاتل المسمِّم، ربما لأنها تتصّور أن الشباب يمكن أن يتراجعوا أو يصمتوا ويسلّموا بالأمر الواقع. لكن ذلك لم يحدث، وكان كل شاب يواجهه بطريقته. في الثورة الأولى التي بدأت في 25 كانون الثاني الماضي، اكتشفنا أنه يمكن مواجهة قنابل الغاز بغسل الوجه بالمشروبات الغازية والبصل والخل. في الثورة الثانية، كانت القنابل الممنوعة دولياً، والتي تُلقى بكثافة، لا تواجَه بالحلول القديمة.
كان لا بد من خيال جديد، وحلّ غير تقليدي. لم تكن الأقنعة العادية وسيلة لإيقاف تنفُّس هذه القنابل، حتى مرتفعة الثمن منها. نزل «الكيماويّون» إلى ميدان التحرير وبدأوا بتجريب الحلول: أولاً «دواء شهير» لحموضة المعدة يخلط بالماء ثم يُغسل به الوجه. في الميدان، اكتشفنا أن استنشاق ثاني أوكسيد الكربون يخفف من أثر الغاز. تنقلب كل قواعد العلوم التي درسناها، كما أن استخدام خميرة البيرة وغسل الوجه باللبن أيضاً يفعل فعله. ربما كانت القنابل هي الأقسى، لكن المدهش أن شباب الصفوف الأمامية في شارع «محمد محمود» لم يضعوا أقنعتهم وهم يخوضون معركتهم الشرسة ضد آلة القمع الأمني.
أما مواجهة بنادق الأمن، فتحصل بالحجارة حصراً، من خلال تطوير المقلاع الفلسطيني والمنجنيق لإلقاء أكبر قدر من الحجارة، وأحياناً تُستبدَل الحجارة بـ«البلي» (الكلّة). لكنّ الحجارة لم تكن تؤثر في ضباط وجنود محصَّنين بأقنعتهم ودروعهم الواقية وخوذهم. لذلك، جاء الحل من «ثوار» طنطا الذين بدأوا بصنع قنابل «بويا» يقذفونهم بها ليخلع الجنود الخوذ ثم يقذفونهم بالأحجار. ثوّار القاهرة قرروا تطوير «قنابل البويا» إلى قنابل «غراء» يقذفون بها العساكر والضباط حتى تلتصق أرجلهم بالأرض، ولا يعودون قادرين على الحركة.
لكن القتال توقّف قبل أن تحصل «اختراعات» وتكتيكات جديدة وبسيطة مثل استخدام السلك الذي يستخدم في نوافذ البيوت لمنع الناموس من الدخول، تمّ تطويره ليستخدَم كنظارات لحماية العيون من الرصاص المطاطي الباحث عن عيون الثوار. طبعاً كان الثوار يستخدمون أشياء كثيرة لصد رصاصات الأمن وقنابله، كان البعض يحمل صحن الدش ليصد به رصاص الأمن. شباب كان ولا يزال يواجه الموت بصدر عار تماماً، بينما يخاف أن تعرف أمّه أنه في الصفوف الأمامية للثورة. صديق أصابته رصاصة لم يكن يهتم وهو يُنقل إلى المستشفى سوى بـ: «ما تقولوش لأمي». الابن قال لوالده لديّ «درس خصوصي»، والأب قال للابن «أنا ذاهب إلى العمل». وفي التظاهرة كان الاثنان يلتقيان فيبتسمان. والأمهات أيضاً كنَّ أكثر روعة؛ عندما خرج شهيد من المشرحة، فاجأت الأم المحيطين بها بالزغاريد: «ابني خارج يا ولاد زفوه لعروسته في الجنة».
هل هناك أجمل من ذلك؟ هؤلاء هم شباب الثورة الذين اثبتوا وعياً أعلى بكثير من وعي النخبة الثقافية الفاسدة، والتي لا تريد أن تنظر أبعد من تحت قدميها. عهر فكري حقيقي يترجمه صحافي قائلاً: «لو الصحافي نزل يتظاهر، يصبح خارج حماية نقابة الصحافيين». خيال السلطة البائس هو الخيال نفسه الذي تمتلكه النخبة الثقافية البائسة، وخدم السلطة القديمة هم الذين يقدمون أنفسهم الآن لخدمة السلطة الجديدة، أيّ سلطة.