ميدان التحرير مجدداً. هنا الناس تجمعوا بمئات الآلاف، هنا أعلام الثورة المصرية، هنا الغضب على الحاكم، هنا هتاف «مش حنمشي هوّ يمشي»، هنا دمية معلّقة على حبل مشنقة، وهنا أيضاً المواجهات الدامية. مشهد يناير وفبراير ٢٠١١ يتكرر في نوفمبر: المكان نفسه، والغضب نفسه، لكن الهتافات المطالبة برحيل الحاكم باتت موجهة للمجلس العسكري، والدمية المعلقة هي للمشير طنطاوي وليس لحسني مبارك، والرصاص الذي أطلق هو من رجال الأمن وليس من «البلطجية».
المراسلون الصحافيون وصفوا هول المواجهات مع القوى الأمنية واستخدام قنابل محرّمة دولياً ضدهم، كما نقلوا أجواءً متضاربة تعكس مدى انقسام الشارع المصري اليوم حول بعض الخطوط الأساسية لمستقبل مصر القريب، ابتداءً من الموقف من إجراء الانتخابات في موعدها.
هل يستمر الإصرار الرسمي على إجراء الانتخابات في الموعد المحدد؟ وماذا بعد الفوز المتوقع للإخوان المسلمين فيها؟ هل فقد المجلس العسكري فعلاً هيبته وشعبيته عند المصريين؟ ماذا عن الموقف الأميركي غير الحاسم الذي يشبه الى حد بعيد الموقف المائل لحسني مبارك غداة اندلاع الثورة؟
الجو العام الذي يطغى على معظم إجابات الصحافيين والمراقبين هو القلق من كل السيناريوات المطروحة، وذلك بعدما ظهرت فعلياً فداحة التأثير السلبي للنظام السابق في الحياة السياسية في مصر، إذ تأكد لهؤلاء أن لا أحد مؤهلّ لقيادة مرحلة انتقالية باتجاه إحلال الديموقراطية والحكم المدني، حتى إن غالبية الشعب لا تزال تخشى التغيير الجذري وتميل الى العناوين التي ألفتها والتي ترتاح لها كشعارات الإخوان المسلمين مثلاً. وبما أن إحلال الديموقراطية «ليس حدثاً يطرأ على المجتمع، بل هو مرحلة متقطعة من الاضطرابات»، كما يقول ليون وايسيلتير، فما يجري يبدو متوقعاً، وهناك «أمور خاطئة كثيرة قد تحدث بين سقوط طاغية ونشوء الديموقراطية». إذاً، ماذا سيحدث الآن؟
يطرح بيني موريس في «ذا ناشيونال انتيرست» ثلاثة سيناريوات: إما أن ينجح العسكر في سحق الحركات الاحتجاجية المطالبة بنقل السلطة فوراً الى هيئة مدنية، أو أن يتخلى المجلس العسكري عن الحكم، أو أن تدخل البلاد مرحلة دامية من الفوضى والاضطرابات تمتد الى الحدود مع إسرائيل. وهذه الفوضى كما يقترح المقال لن تنتهي إلا بحدوث انشقاقات في الجيش تؤدي الى انهياره. ماذا لو نفذ الإخوان المسملون انقلاباً على الحكم العسكري؟ يقول موريس إن الأمر مستبعد وذلك لقوة المجلس العسكري ولعدم جهوزية الإخوان الذين اعتادوا التماشي مع الحكم القائم منذ سنوات.
بالانتقال الى الشارع، تحاول مراسلة «ذي نيويوركر» نقل أفكار المواطنين العاديين في الشارع المصري، وفي مقال بعنوان «ميدان التحرير: ثورة ثانية؟» تبيّن عبر مداخلات الناس مدى تناقضهم بعضهم مع بعض. «لو أعلن طنطاوي ما أعلنه قبل سقوط قتلى مدنيين لاكتسب كلامه تأييداً»، يقول أحدهم لستيفنسون، ويردف آخر «دعوه يتكلم. نحن سنبقى في الميدان وهو سيرحل»، ثم يسأل أحدهم «لماذا دعا طنطاوي الى إجراء استفتاء؟ ماذا يعني ذلك؟»، فيجيبه زميله «لا. نحن نريد انتخابات»، «كلا، الانتخابات يجب أن تؤجل» يصرخ آخر. «ليس هناك أي سبب يدفع ناس التحرير الى تصديق كلام طنطاوي»، يقول أحد المرشحين الليبراليين لانتخابات مجلس الشورى، «هي الثورة في مرحلتها الثانية ... على أمل أن تكون الأخيرة» يضيف. شادي حميد يدعو على موقع «ذي أتلانتيك» إلى أن «لا تؤجل الانتخابات مهما خشي البعض من فوز الإخوان المسلمين فيها، لأن التأجيل سيعطي المجلس ما يتمناه وهو إطالة عمر حكمه وسيطرته على البلد وإبعاد فرصة الانتقال الى حكم مدني».
«أنتم تتحدّثون عن ضباط عسكريين. هي المرة الأولى التي يناقشهم فيها أحد في أمر ما»، ينقل أشرف خليل عن الكاتب علاء الأسواني في مقال في «فورين بوليسي». خليل يذكّر ببعض المدونين والناشطين الذين حذّروا منذ اليوم الأول لسقوط مبارك من تبعات تسلّم العسكر السلطة، «لكنهم حينها اعتُبروا خونة، فيما كان الضباط يعاملون كأبطال». الكاتب يخلص إلى القول إنه بعد الأحداث الدامية الأخيرة يمكن الاستنتاج بأن ما حصل لغاية الآن هو «نصف ثورة» في ظل مجلس عسكري «نفذ انقلاباً على جماعة مبارك الحاكمة للحفاظ على هيمنته على السلطة». الناشط يصف «التحرير» اليوم بأنه «أكثر غضباً من ميدان يناير»، ويضيف «لكنه ليس ميدان احتفالات، هو ميدان قتال».
ستيفن كوك، في مجلة «فورين بوليسي»، يوجه اللوم مباشرة للمجلس العسكري بجرّ الأوضاع الى ما هي عليه الآن، وبخلق جو من التوتر في البلد. كوك يعدد الأخطاء التي ارتكبها المجلس خلال الشهور الماضية وممارساته القمعية وتعديلاته الدستورية غير المنطقية وإعادة العمل بقانون الطوارئ وسجن المدوّنين والمحاكمات العسكرية للناشطين وأخيراً القتل ... كوك يشرح أن المجلس كان على خطأ في الأمور الآتية: «أنه اعتقد، كما مبارك، أن المتظاهرين في المدن المصرية لا يعبرون عن الأكثرية الصامتة في البلد، ثانياً، اقتناعهم بأنهم يعرفون مصلحة البلد أكثر من غيرهم، ثالثاً، أنهم اكتفوا بالاستفتاء الذي تقوده مراكز الأبحاث والتي تظهر أن التأييد الشعبي الأكبر هو للمجلس». «وبين ثوار التحرير، والإسلاميين واليسار النائم في مصر، جلّ ما يطالب به المصريون هو العدالة الاجتماعية وهذا ما لن يفرّطوا به حتى للمجلس العسكري»، يقول كوك.
«حان الوقت لأن تتحد النخبة مع الشعب، والإسلاميين مع غير الإسلاميين للضغط من أجل مرحلة سياسية انتقالية سريعة تنقل البلاد الى حكم مدني»، يقول مارك لينش في «فورين بوليسي». «هو الوقت المناسب لترمي الولايات المتحدة بثقلها لتنفيذ المطالب المشروعة في البلاد بقوة ووضوح وفي العلن»، يضيف لينش.
ومع اللوم الذي وجّهه معظم المحللين الأميركيين لإدارة أوباما لتأييدها للمجلس العسكري وتجاهل قتل المدنيين والممارسات غير الديموقراطية، ذكّرت «واشنطن بوست» بموقف الادارة الداعم لمبارك بعيد انطلاق الثورة ودعتها الى «تحذير الضباط علناً بأنها ستوقف المساعدات المالية والسياسية في حال عدم الإعلان عن برنامج زمني حاسم وسريع للانتقال الى حكم ديموقراطي». «نيويورك تايمز» حثت الإدارة الأميركية على الأمر نفسه. وذكّرت بمصلحة الولايات المتحدة بأن «تكون مصر بلداً ديموقراطياً في سلام مع إسرائيل وباقي الدول المجاورة».
مارينا أوتاواي من معهد «كارنغي» تقول «إنها المعضلة ذاتها التي وقعت فيها الإدارة الأميركية في كانون الثاني الماضي، فهي تؤيد السلطة الحاكمة في مصر، لكنها لا تريد أن تحكم البلاد جهة مكروهة ومغضوب عليها».
من جهة أخرى، طالبت «ذي ناشيونال إنترست» الإدارة الأميركية «باللعب في الكواليس وعدم الإجهار بالتدخل في الشؤون المصرية حالياً»، كالعمل على التخفيف من حدة الخطاب الإسلاموفوبي مثلاً ... «هذا هو التصرف الحكيم الذي يجب أن تعتمده الولايات المتحدة في هذه المرحلة».



نريد رئيساً يشبه أردوغان

في استطلاع للرأي قام به المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، شبلي تلحمي، في ست مدن مصرية، ونشره «مجلس العلاقات الخارجية» الأميركي، يظهر أن ٤٣٪ من المستطلعين يعتبرون أن المجلس العسكري يقلب نتائج الثورة ويجيّر أرباحها له. لكن تلحمي يفسر أنه رغم تراجع شعبية المجلس العسكري في الأسابيع الأخيرة، إلا أن لدى الشعب المصري «خزاناً من النيات الحسنة تجاه الجيش». ظاهرة أخرى يشير إليها الاستطلاع وهي اختيار المستطلعين رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان كالشخص الذي «يريدون الرئيس المصري المقبل أن يشبهه». كما أن الإجابة الأولى عن سؤال «بأي دولة تريد أن تتشبّه مصر سياسياً»، كانت: تركيا.
وفي الموضوع التركي، يلفت تعليق ستيفن كوك في «فورين بوليسي» على الفكرة «الخاطئة وغير المنطقية» التي يرددها عدد من المصريين حالياً والتي تسمح بتبرير أعمال العسكر، وهي تقول «إن الجيش في تركيا قد أقام الديموقراطية بالقمع وأجبر الإسلاميين على الاعتدال».