القاهرة | ما يحدث في مصر الآن فوق أي تصور، وأي خيال. حرب إبادة بكل الأسلحة القذرة. الشعب الذي هتف فى أول أيام ثورة «25 يناير»: «الجيش والشعب إيد واحده»، هو نفسه الآن الذي يهتف: «الجيش والشرطة إيد وسخة». كيف وصلنا إلى ذلك الأمر؟ ما الذي يحدث في شوارع القاهرة؟ هل تنتقم الداخلية من الشعب. أم أن تمرداً كبيراً داخل الجهاز يرفض تنفيذ أوامر وقف إطلاق النار؟ أم أن القيادات القديمة التي لم يشملها التطهير قررت أن تقضي على ما تبقى من الجهاز. «لعبة» ربما لعبها المجلس العسكري لتأديب الشعب، لكن يبدو أنها ستنقلب عليه.في الميدان عشرات الآلاف. يسقط كل دقيقة مصاب، أو أكثر، وشهداء وصل عددهم، حسب وزارة الصحة، إلى 33 شهيداً حتى عصر أمس، وإن كان البعض يتحدث عن ضعف هذا العدد. وزارة الصحة نفسها متهمة، الكثيرون تحدثوا أمس داخل الميدان عن نقل سيارات الإسعاف للمصابين إلى جهات غير معلومة. وزير الداخلية منصور العيسوي «اختفى» طوال يوم أمس، وتقدم باستقالته أول من أمس، لكنها رفضت، وقد أصرّ عليها مثلما أصرّ أيضاً وزير الثقافة عماد أبو غازى. وتحدث العيسوى في اجتماع مجلس الوزراء عن عدم معرفته بالأساس بفض الاعتصام أو اندلاع العنف في الميدان، ما يعنى أن قادة الداخلية تلقّوا تعليماتهم مباشرة من المشير طنطاوي.
رئيس الوزراء عصام شرف توجه أمس باستقالته إلى المشير طنطاوي. وقال المتحدث باسم الحكومة محمد حجازي إن «الحكومة وضعت استقالتها تحت تصرف المجلس الأعلى للقوات المسلحة»، موضحاً أنه «تقديراً للظروف الصعبة التي تجتازها البلاد في الوقت الراهن، فإنها مستمرة في أداء مهماتها كاملة لحين بتّ استقالتها»، التي أعلن مصدر عسكري للتلفزيون المصري أن المجلس رفضها. إلا أن «رويترز» نقلت عن مصدر عسكري قوله إن المجلس يسعى إلى توافق على رئيس جديد لمجلس الوزراء، قبل أن يقبل استقالة شرف.
وفي السياق، دعا المجلس العسكري القوى السياسية إلى اجتماع طارئ استباقاً للمليونية المقررة اليوم في ميدان التحرير، التي دعت إليها مجموعة من الائتلافات والحركات السياسية، تحت اسم «مليونية استرداد الثورة»، وأعلنت «الإخوان» مشاركتها فيها.
وقال بيان المجلس، الذي أوردته وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية، إن الاجتماع يهدف «الى حوار عاجل لدراسة أسباب تفاقم الأزمة الحالية ووضع تصورات الخروج منها في أسرع وقت ممكن حرصاً على سلامة الوطن». وأعرب «عن بالغ أسفه لسقوط ضحايا ومصابين في هذه الأحداث المؤلمة، وقدم خالص التعازي لأسر الضحايا وتمنياته بالشفاء العاجل لجميع المصابين». وأضاف البيان إن المجلس «أصدر أوامره لقوات الأمن باتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لتأمين المتظاهرين والتحلي بأقصى درجات ضبط النفس في إطار القانون». وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة وزارة العدل بتشكيل لجنة «لتقصي الحقائق وأسباب وملابسات ما حدث، والتي أدت الى وقوع ضحايا من المتظاهرين وتقديم النتائج في أسرع وقت ممكن واتخاذ الإجراءات القانونية ضد كل من يثبت تورطه».
في هذا الوقت، تلقى ميدان التحرير، أمس، نبأ استقالة شرف بفرحة مؤقتة، إذ هناك إصرار شديد على البقاء في الميدان حتى تحقيق بقية مطالب الثورة، وأهمها تشكيل حكومة إنقاذ وطني بصلاحيات كاملة تتولى إدارة ما تبقّى من فترة انتقالية، على أن تنقل إليها كل الصلاحيات السياسية للمجلس العسكري، وتشكيل مجلس رئاسي مدني، وتطهير جهاز الأمن والإعلام الذي يسير على خطى مبارك، وضمان محاكمات جادة لرموز النظام السابق، وإلغاء قانون الطوارئ والمحاكمات العسكرية، والإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين والذين حوكموا محاكمات عسكرية. وقد طرح الثوار اسمي محمد البرادعى والمستشار حسام عيسى لرئاسة الحكومة.
هذه المطالب قد يرفضها العسكر، ما ينذر بتجدد الاشتباكات. الثوار الذين لا يريدون أن يخطئوا بترك الميدان قبل أن تتحقق مطالب الثورة، كما حدث في 25 يناير، وخصوصاً أن «رصيد المجلس العسكرى قد نفد»، لذلك هتف الثوار بعد إذاعة نبأ استقالة الحكومة: «يا مشير، دمر دمر، بكرا نهايتك زيّ معمر»، في إشارة إلى الزعيم الليبي معمر القذافي.
وكان ميدان التحرير أمس على موعد جديد مع المواجهات، التي بدأت مبكراً مع إطلاق قنابل مسيلة للدموع على إحدى البنايات، ورفض أجهزة الإطفاء إخماد الحرائق، التي امتدت إلى شقة تملكها الجمعية الوطنية للتغيير، التي يرأسها محمد البرادعي، وتم إنقاذ عدد من النشطاء الذين كانوا يقوم بتصوير انتهاكات الداخلية من البناية. وبعد إطفاء الحريق اكتشفت سرقة «كاميرا فيديو» كانت تحتوي على أفلام تدين الدخلية وتوثق عنف الأمن فى التعامل مع المتظاهرين، وقد صوّرت طوال ليلة أمس، ومن بينها تجميع جثث الشهداء عند أول شارع باب اللوق.
وكانت وزارة الداخلية قد نفت إطلاق الشرطة أيّ رصاص باتجاه المتظاهرين، ما يعنى أن من يقوم بالقمع هو الجيش، إلا أن أحد مساعدي اللواء الرويني عضو المجلس العسكرى أكد «لم نأمر بالضرب، والجنود اتصرفوا من دماغهم». وفي الوقت الذي أعلن فيه التلفزيون المصري أن الشرطة لا تقوم بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، أعلنت القناة نفسها إصابة المصور الخاص بها برصاصة، ما اعتبره البعض فضيحة للتلفزيون تضاف إلى فضائح أخرى كثيرة.
من جانب آخر، أعلن المجلس العسكري تفعيل قانون الغدر الذى يمنع ترشح بقايا أعضاء الحزب الوطني في الانتخابات، إلا أن البعض اعتبر أن إعلان القانون لا قيمة له، إذ إنه لن يفعّل، وخصوصاً بعدما «أغلق باب الطعن على مرشحي الانتخابات». ورآه آخرون: «مجرد رشوة لجماعة الإخوان المسلمين لضمان عدم انضمامهم إلى التظاهرات... وتحديداً في مليونية اليوم، والأخرى المقررة يوم الجمعة».