غزة | عيد أضحى جديد، ذكرى جديدة لفداء اسماعيل عليه السلام بالكبش العظيم، وكل عام وأنا بخير، ولن أنسى حتماً أن أقول لذاك الكبش الهارب من ناقلة الأكباش الكبيرة: كل عام وأنت كبش شجاع! بل أكثر شجاعة مما يظن غيرك من الأكباش الحقيقيين في العالم. العيد الماضي، الخامسة مساءً تقريباً، الأجواء باردة، أضواء المساء لامعة، رغبت في العودة إلى البيت مشياً على الأقدام للتمتع ببهجة الشوارع المزينة احتفالاً بحلول العيد، وابتهجت فعلاً إلى أن فاجأ بصري في منتصف الطريق ذاك الكبش الأبيض قافزاً من سياج القفص الحديدي، رأيته يركض في الطريق العام بسرعة مهولة. ظللت أراقبه فرحة بما فعل.. فقد أحببت فيه محاولة كائن ما للخلاص! كان يطلق ثغاءً متقطعاً، مرتفعاً حيناً ومنخفضاً حيناً آخر، فيبدو الصوت للقلب أقرب ما يكون إلى أنين الإنسان. لكنه رغم خوفه الشديد لم يلتفت خلفه ولو لمرّة واحدة، مرة واحدة فقط! كان يركض باتجاه الرصيف الأيمن، وأنا بمحاذاة الاتجاه الآخر للرصيف، أركض أقفز داخلي وخارجي في آن واحد معه، أحاول اللحاق به. وددت لو أدفعه للركض أسرع بكثير بكثير بعيداً جداً. صاحبه أوقف ناقلة الأكباش ولاحقه، المارون أيضاً، كل المارين أخذوا يحاولون الإمساك به بأعينهم بأيديهم بصراخهم بتعجبهم بحزنهم بضحكهم بحديثهم العفوي والجاد، المهم أنّه كان هناك شيء أكثر أهمية بكثير من كبش هارب في طرقات ليلية باردة، شيء يصيب البعض بصمت يشبه ذاك الذي تلبّسني لحظتها، يشبه كل تلك الأسئلة التي توالدت في عقولنا من دون أن ندري: من يكون ذاك الكبش؟ هل هي لعنة المضطهد أم صورة قفزت من عقولنا وتحركت في مخيلتنا فرأيناها هكذا .. تركض في الشارع؟
لم يبال هو حتى بصمتنا، بأسئلتنا! ظلّ منطلقاً يركض في الطريق الممهّد الطويل بلا توقف.. بلا توقف، يقفز فوق، بين السيارات، بين المارّين ذاتهم الذين يلاحقونه من مكان إلى آخر كأنّه ضالتهم الوحيدة بعد ذواتهم، كان غريباً فعلاً أن تجتمع كل تلك المحاولات البشرية لإفشال محاولة كائن ضعيف بريء لا حول له ولا قوة، كل ما في الأمر أنّه حاول الهروب من قدر محتّم، ليس مهماً كثيراً ما هو هذا القدر، بقدر أهميّة رغبته في الفرار في اللحظات الأخيرة، إذ إنّه من الضعف والبراءة بحيث يتوقع أن يقبض عليه عاجلاً أو آجلاً، قُبض عليه فعلاً، عاد إلى قفصه المسيّج صامتاً، صامتاً جداً! فيما ودّعته نظرات المارّين بذهول تام، فهل كانت مدعاة الذهول محاولته الشجاعة للفرار، رغم تيقنه من أنّه لا مفرّ له من الذبح، أم فداحة ضعف داخلنا الذي لم يرتق بعد إلى جرأة كبش؟