جاء التسريب الوحيد الذي يحتوي على تفاصيل محددة حول الانقلاب المزعوم الذي اتهمت حكومة بغداد حزب «البعث» بالإعداد لتنفيذه خلال انسحاب ما تبقى من قوات الاحتلال الأميركي، على لسان نائب الرئيس خضير الخزاعي في عمّان. قال الخزاعي، بحسب مراسل صحيفة «الدستور» البغدادية إن «الانقلاب البعثي كان يستهدف تفجير المنطقة الخضراء وبعض المناطق الأخرى بواسطة السيارات المفخخة، ثم إعلان اغتيال رئيس الوزراء نوري المالكي من إحدى العواصم العربية بغرض إشاعة الفوضى، والقيام بحملة اغتيالات منظمة والاستيلاء عبر هذا المخطط الإجرامي على السلطة والعودة بالبلاد إلى الوضع السابق». وأضاف معلومات أخرى لم تعالج هشاشة هذه الرواية جدياً، ومن أهمها أن مخططاً متكاملاً بهذا الخصوص تم اكتشافه منذ ستة أشهر، لكن حكومته «لم تعلن ذلك لأننا أردنا ألا نخاصم أحداً وأن نصبر على الجرح لغرض أن نمضى بالمسيرة الديموقراطية إلى شوط أبعد». مراقبون فسّروا هذا الكلام بأنه تلميح إلى اشتراك بعض المسؤولين والساسة من خارج «التحالف الوطني» الحاكم في بغداد بالانقلاب المزعوم. وفي المناسبة نفسها، كشف الخزاعي رسمياً، وللمرة الأولى، عن دور لاستخبارات نظام معمر القذافي في المحاولة الانقلابية، وعن إفادات لبعض المعتقلين والمتهمين بالتورط فيها، وعن اعتقالات طاولت «البعض ممن كانوا في هذا المخطط ويتولون مواقع، وعندنا شرائط مصورة لفلان وهو بشحمه ولحمه يتحدث عن دوره»، على حدِّ تعبيره. غير أنّ تصريحات الخزاعي تصطدم بالكثير من الوقائع التي تقلّل من صدقيتها. من بين ذلك أن قوائم المعتقلين احتوت على أسماء أشخاص طاعنين في السن، وآخرين توفوا منذ سنوات، بحسب نائب رئيس الوزراء صالح المطلك. مشكلة أخرى تعاني منها الرواية الحكومية مفادها أن علاقة جناحَي البعث، الدوري والأحمد، اللذين طاولت حملةُ الاعتقالات كوادرهما، لم يكونا على وفاق طوال الأشهر الستة الماضية، فكيف حدث واتفقا على القيام بانقلاب مشترك؟
في المقابل، يعرب محلّلون عن ثقتهم بأنّ دخان الانقلاب البعثي ليس خادعاً كله، وربما كان وراءه شيء من النار، لكنها لا تصلح لتكون نارَ مؤامرةٍ متكاملة وجدّية تريد إطاحة حكم المحاصصة الطائفية الذي يقوده الثلاثي المالكي والنجيفي والطالباني، غير أنها قد تضمر محاولة بعثية لإثبات الذات واستعراض القوة خلال الفترة الأخيرة من انسحاب قوات الاحتلال. مصادر سياسية مقربة من قائمة «العراقية» عللت سير «البعث» في طريق الانقلاب العسكري الذي يجيده تاريخياً، بحملات الاجتثاث الشاملة والمتواصلة ضده، وآخرها حملة وزير التعليم العالي علي الأديب ضد الأساتذة. ولكي لا يُفسَّر هذا التحليل بأنه دفاع عن «البعث» بشتى أجنحته، تضيف تلك المصادر بأن البعثيين أنفسهم يتحملون جزءاً ثقيلاً، وربما الأثقل، من مسؤولية ما يحدث لهم وللعراق بعدما تجمّدوا في حالة «نوستالجيا السلطة المفقودة»، فأخذتهم العزة بالإثم، ورفضوا الاعتراف بأخطائهم وتجاوزاتهم التي عَدّتها منظمات إنسانية عالمية جرائم ضد الإنسانية، ولم يعتذروا للعراقيين عنها أو يراجعوا تجربتهم في الحكم، بل راحوا يزايدون بعضهم على بعض في تقديسها وتصنيم رموزها إلا ما ندر. وردّ بعض المؤيدين لاستمرار اجتثاث البعث على وجهة النظر السابقة بالقول إنّ قضية الاجتثاث لم تعد عراقية بحتة، بل أصبحت ظاهرة شاملة أعطتها ثورات الربيع العربي مشروعية وصدقية أكثر، بدليل أن الاجتثاث الذي يجري الآن في مصر وتونس وليبيا هو أكثر حدة وشمولاً مما جرى ويجري في العراق.
تبقى أهم ثغرة تشكو منها رواية الحكومة حول الانقلاب البعثي، هي أن المالكي وفريقه الوزاري، وبينما يرفضون مخطّط الأقاليم ويرونه محاولة لتحويل المحافظات الغربية إلى حاضنات وملاذات آمنة لـ«البعث» يلجأ إليها ويسيطر عليها، فإنها تقفز على حقيقة أن «البعث» نفسه، بكافة أجنحته، يرفض مشروع الأقلمة تماماً. كثيرون علقوا وكتبوا بأن الموضوع برمته لا يخلو من التناقضات الصارخة أو غير القابلة للتصديق، وهي تناقضات من النوع الذي حين يسمعه المواطن العراقي البسيط، فإنه سيكرر مثلاً شعبياً عراقياً يقول: شي ما يشبه شي!
على الجهة الأخرى من المشهد السياسي العراقي الراهن، لا تزال تداعيات قرار المجلس المحلي في محافظة صلاح الدين، بإعلان نفسها إقليماً مستقلاًَ إدارياً واقتصادياً متواصلة، مع حصول انشقاقات بين صفوف دعاة الأقلمة، وسط تبرّؤ البعض من ساسة المنطقة من هذه الدعوات. وأخيراً، خرجت القائمة «العراقية» بقيادة اياد علاوي على الرأي العام بموقف ذي وجهين مفاده أن «موقفنا الرسمي هو مع اللامركزية الإدارية، لكننا نؤيد المطالبة بالإقليم لأنه حق دستوري». أقضية تابعة لصلاح الدين وديالى كخانقين والدجيل هدّدت بالانفصال والانضمام إلى محافظات أخرى، وأطراف أخرى عارضت المشروع بشدة، وطالبت بمقاضاة من سانده؛ وعلى سبيل المثال، حضر من الموصل إلى بغداد وفد من الوجهاء والشيوخ مطالبين بمقاضاة رئيس البرلمان أسامة النجيفي لأنه «يستغل منصبه لدعم مشروع تقسيم العراق إلى أقاليم». ومن خارج «العملية السياسية»، انضمت «هيئة علماء المسلمين» إلى «البعث» والرافضين الآخرين لمشروع الأقلمة، ووجّه أمينها العام الشيخ حارث الضاري رسالة مفتوحة إلى أهالي صلاح الدين، دان فيها ممارسات الحكومة، لكنه في الوقت نفسه رفض تحويل المحافظة إلى إقليم، واصفاً دعاته بأنهم «عملاء للاحتلال». وقد اقترح كاتب عراقي معروف بعدم تأييده لإقامة الأقاليم الطائفية، فكرة لا تخلو من الطرافة والنباهة على المطالبين بإقليم صلاح الدين ومفادها: لماذا لا يشمل إقليمكم محافظتَي ديالى المختلطة وواسط ذات الغالبية العربية الشيعية، اللتين لهما تواصل جغرافي، فتكونون بهذا قد حققتم عدة أهداف، واصطدتم عدة عصافير بحجر واحد، كتقوية خاصرة العراق الرخوة في مواجهة إيران وأطماعها التقليدية، وقلب الطاولة على رؤوس أصحاب مخططات تفتيت العراق طائفياً وتحقيق رغبتكم في اللامركزية الواسعة؟!