يصاب متابع الشأن الاسرائيلي بالتعب، وأيضاً للمفارقة، بالملل، في ملاحقة ما يصدر عن تل ابيب، حيال مسلسل قرار الضربة الاسرائيلية للمنشآت النووية الايرانية. السجال على حاله منذ فترة، وفي تصاعد ووتيرة تتزايد يوماً بعد يوم، لكن بلا أفق ولا نتيجة، وأيضاً بلا قرار. مسؤولو اسرائيل منقسمون حيال ايران، وتتبارى وسائل الاعلام في توصيف المشهد وبوصلة اتجاهات الرأي فيه: من يريد ومن لا يريد، وهل يتغلب الثنائي نتنياهو ـــــ باراك، المؤيدان للضربة والساعيان اليها، ام يتغلب قادة الاجهزة الامنية الرافضون لها؟ سجال لو كان يحمل قليلاً من الجدية، لكان محبوساً في الغرف المغلقة. المؤكد حتى الآن، أن وسائل الاعلام الاسرائيلية، ومن ورائها محركو «قرار الضربة»، رفعوا المسألة الى رأس سلم اولويات الجمهور، وبالتالي ابعدوا عن المنصة كل مطلب واهتمام آخر.

يجري تصوير «قرار» الضربة، وكأنه خيار من ضمن مجموعة خيارات اخرى متاحة، وما على صانع القرار الا الاختيار بينها. يجري القفز بعيداً عن اسس الضربة وامكاناتها المادية، التي تسبق اي قرار قد يُعمد الى اتخاذه. قليل من التحليلات الاسرائيلية تناول القدرة الفعلية المادية: هل الدولة العبرية قادرة بالفعل؟ وإن كانت قادرة، فهل تحقق النتيجة؟ وإن حققت النتيجة، فأي نتيجة تحقق؟ وإن كان كل ذلك، فهل تستأهل النتيجة المحققة، على تواضعها كما تقر اسرائيل نفسها، تداعيات اليوم الذي يليها، على عظمتها؟ هي اسئلة غائبة تقريباً عن السجال. يجري تناول الخيار العسكري وكأنه خيار متاح وممكن، وما مسألة إخراجه الى حيز التنفيذ، الا قرار مرتبط فقط بالميول الشخصية.
مع ذلك، يمكن التأكيد أن حملة التهويل والتلويح بالضربة غير موجهين للآذان الايرانية، بل لحلفاء تل ابيب واصدقائها حول العالم، وايضا لجهات دولية اخرى، لا تماشي رغباتها المواجهة المطلوبة اسرائيلياً ضد البرنامج النووي الايراني. التهويل الاسرائيلي موجه للوكالة الدولية للطاقة الذرية، بمناسبة صدور تقريرها الجديد، بعد ايام، والمرتقب اسرائيلياً ان يكون مديناً لايران، بأنها قامت بالفعل بـ«عسكرة» برنامجها النووي، الامر الذي يعني تحويل الملف الى مجلس الامن تمهيداً لفرض حزمة جديدة من العقوبات. على ذلك، تأمل اسرائيل من سجالها وتهويلها، ان تسهل على الاميركيين مهمة ضد معارضيهم في مجلس الامن، وتمكينهم من فرض عقوبات جديدة وأكثر تأثيراً من سابقاتها.
لإضفاء الجدية على «التهويل» الاسرائيلي، قامت تل ابيب بجملة من الخطوات والاجراءات العملية، في رسالة واضحة المعالم والمقاصد، في سياق الحملة الاعلامية على ايران: تجربة اطلاق صاروخ بالستي، على غير العادة، فوق المدن الاسرائيلية باتجاه البحر، أيضا جرى الاعلان والربط بين مناورات تجريها اسرائيل منذ سنوات في اوروبا، للإشارة الى وجود تمارين عملية تستهدف الاستعداد للقيام بضربة جوية اسرائيلية لإيران. والمقصد أيضاً، مزيد من الجدية على التهويل. ضمن نفس الهدف، جرى توظيف مناورة للجبهة الداخلية تحاكي سقوط صواريخ على المدن والمستوطنات، رغم انها شبه روتينية واعتادها الاسرائيليون، كفحص اعتيادي دائم لجهوزية اطقم الانقاذ في حالات الطوارئ، وسقوط صواريخ او كوارث طبيعية وغيرها.
كما يبدو، فإن الاميركيين، والبريطانيين، منخرطون في سياسة التهويل الاسرائيلية. زيارات معلنة وغير معلنة ثم يعلن عنها لاحقاً، لمسؤولين امنيين وعسكريين من كلا البلدين، تصب في الاتجاه نفسه. كان اهمها زيارة وزير الدفاع الاميركي، ليون بانيتا، لتل ابيب، وتصريحه الذي جاء نقطة انطلاق للحملة التهويلية، بأن «اي عملية عسكرية اسرائيلية ضد المنشآت النووية الايرانية، يجب ان تكون بالتنسيق الكامل مع المجتمع الدولي»، في ايحاء منه الى ان واشنطن تسعى الى كبح تل ابيب، المصرة على توجيه الضربة.
مع ذلك، من اطلق الحملة التهويلية الاسرائيلية معذور. لا يوجد في الجعبة خيارات عملية ضد ايران سوى ذلك، وسط اصرار ايراني على مواصلة الطريق النووية. لكن في الوقت نفسه، على اسرائيل ان تفكر أيضاً باليوم الذي يلي التهويل وفشل المحاولة في الوكالة الذرية ومجلس الامن، على صد ايران ولي ذراعها. في اليوم الذي يلي كل ذلك، ستخمد الحملة الاسرائيلية، وسيتضح زيفها بلا إمكان للمواربة. من يقارب مسألة استراتيجية حيوية كالمسألة النووية الايرانية، من خلال سياسة «امسكوني وإلا»، عليه ان يحسب حساباً انه قد لا يمسكه احد، وأنه قد لا يحقق ما يريده، وبالتالي قد يتعرى لاحقاً من القدرة على استخدام التهويل وصورة الاقتدار، وهي الصورة التي طالما خدمت اسرائيل منذ نشأتها.